قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ* وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ* فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ* فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ* أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ* نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ}، ويسأل الكثير من المسلمين عن معنى آية فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا الواردة في سورة المؤمنون.
معنى آية فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا
اختلف أهل قراءة القرآن على قراءة كلمة زبُرًا في قوله تعالى { فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} فقرأها معظم القرَّاء في المدينة والعراق زُبرًا بمعنى جمع الزبور، ومعنى آية فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا أنَّ القوم الذين جاءهم أمرُ الله تعالى بالاجتماع على ملة واحدة ودين واحد من أمَّةِ عيسى -عليه السلام-، ودينهم الذي أمرهم بالتزامه.
ويُراد بقوله تعالى زبُرًا أي كتبًا، والمعنى فتفرَّق القوم وآمن كل منهم بكتاب مختلف عن كتاب الفرقة الأخرى، فاليهود آمنوا بالتوراة ودانوا لحكمها على حدِّ زعمهم، والنصارى آمنوا بالإنجيل ودانوا له وكذبوا بالقرآن الكريم.
وقد روي عن قتادة أنَّه فسَّر كلمة زبرًا وقال: كتبًا، وعن مجاهد أنَّه قال عن “بينهم زبرًا”: كتب الله فرقوها قطعًا، وذهب بعض المفسرين ممَّن قرأ زبرًا إلى أنَّ معنى الآية يشير إلى أنَّ القوم تفرقوا في دينهم على كتبٍ متعددة قد أحدثوها كي يحتجوا بها لمذاهبهم.
وفسَّر ابن زيد ذلك بقوله: إنَّ ذلك ما اختلف فيه الناس من الأديان والكتب، وكلُّ فريق معجبٌ برأيه، وكل أهل هوى معجبون بهواهم ورأيهم وصاحبهم الذي اخترق لهم ذلك.
وقرأ معظم القراء في الشام “زبَرًا” بضمِّ الزاي وفتح الباء، وفسروا ذلك بأنَّ القوم تفرقوا أمرهم بينهم قطعًا مثل زبر الحديد، وتلك القطع أو الزبر جمع والواحدة منها زبرة، وقد ورد ذلك في قوله تعالى: {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ}، فتفرق الناس بين يهود ونصارى وغير ذلك.
وفي تفسير ابن عاشور وردَ أنَّ الفاء التي جاءت في بداية الآية تنبيه إلى أنَّ الناس لم يتريثوا بعد تبليغ الرسالات من قبل الرسل، فقد تفرقوا وتقطعوا أمرهم فيما بينهم واتخذَت كل طائفة أو جماعة منهم إلهًا، وأضحى دينهم مقطًّعا ومفرقًا إلى قطع كثيرة لكل فريق منهم صنم خاص وعبادة خاصة، فالكلام بالإضافة إلى أنه يوضِّح أحوالهم فيه ذمٌّ لأفعالهم وهذا ما تؤكده نهاية الآية بقوله: {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ}.
واستخدم الله تعالى كلمة تقطَّعوا للتعبير عن زيادة الشدة في حصول الفعل، فيكون معنى تقطعوا أمرهم قطعًا كثيرة: أي تفرقوا على طوائف ونحلٍ كثيرة، واتَّخذ كل فريق وجماعة دينًا خاصًّا، والزبر هي الكتب كما سبق واستخدمها الله تعالى كنايةً عن الأديان، لأن الدين يوجب أن يكون لأتباعه كتاب، من خلاله يتميزون عن بقية الأديان والطوائف، وقد تكون استعارة فيها شيء من التهكم، أي تفرقوا على طوائف وعقائد لو سجِّلت لكانت زبرًا أي كتبًا.
وفي معالم التزيل للبغوي يشيرُ إلى أنَّ الأمم تفرقوا فيما بينهم وأصبحوا فرق كثيرة من يهود ونصارى ومجوس وغيرهم، وزبُرًا قطعًا وفرقًا مختلفة، ومفردها زبور وهو الطائفة أو الفرقة، وكذلك الزبرة، ويصحُّ أن يشار إلى أنَّهم تفرقوا مثل قطع الحديد وهي ما تسمى زبر الحديد.
وفي تفسير آخر أنَّ المقصود من الآية أصحاب الدين الواحد الذين اختلفوا في كتبهم وجعلوها مقطعة آمنوا ببعض ما جاء فيها وكفروا ببعض ما جاء فيها وحرفوا البقية، والله تعالى أعلم.
اقرأ أيضا: معنى آية الا من اتى الله بقلب سليم
فوائد من آية فتقطعوا أمرهم بينهم زبرا
- إنَّ الله تعالى أرسل الرسل جميعهم لغاية واحدة وهي الدعوة إلى التوحيد والإيمان بالله تعالى الواحد الأحد خالق كلِّ شيء، ولذلك كانت الرسالات هي رسالة واحدة وتتمحور حول عقيدة واحدة، مع الاختلاف في بعض العبادات والأحكام.
- لقد كان البشر دائمًا بعد نزول الرسالات سرعان ما يكفرون ويتفرق بعضهم عن بعض، ويكفر بعضهم بكتاب الله أو ببعض ما جاء فيه، ويؤمن بعضهم بكتبٍ وأديان وعقائد ما أنزل الله بها من سلطان، حيث قال تعالى في كتابه الكريم: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ ۖ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ۚ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا}، في إشارة إلى ارتداد الإنسان عن إيمانه بشكل متكرر.
- من الجهالة أن يفرح أصحاب كلِّ حزب أو طائفة بما يؤمنون به، من دون علم أو دليل على معتقداتهم والتي قد تتنافى مع العقل والمنطق في معظم الأحيان.
- إنَّ الله لا يرضى لعباده أن يتفرقوا فيما بينهم، ويكونوا أحزابًا وطوائف، وكثيرًا ما أشار إلى أنَّ الأمة هي أمة واحدة، على اعتبار أنَّ أمة الإسلام والتوحيد يجب أن تكون واحدة، حيث قال تعالى: {إِنَّ هَٰذِهِۦٓ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ}، ولذلك ذمَّ الله تعالى في الآية الكريمة السابقة تفرَّق الأمم على أحزاب مختلفة، وهذا التفرُّق والتحزُّب قد أدى إلى سقوط أمم وديانات كثيرة قديمًا، وهو من دعاوى الشيطان التي يلبس فيها الحق بالباطل.
اقرأ أيضا: موضوعات ومضامين سورة المؤمنون