القرآن الكريم هو كتاب هداية وأخلاق لتهذيب الطباع وتغيير العادات وتحسين الأخلاق من خلال التحلّي بمكارم الأخلاق والاتصاف بمحامد الصفات، ومن أبرز آيات الهداية والتهذيب في القرآن الكريم قوله تعالى في سورة الحجر: {قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ}؛ لذلك يجب على مسلم معرفة معنى آية فلا تكن من القانطين وفوائدها العديدة.
معنى آية فلا تكن من القانطين
ورد في سورة الحجر قول الله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ * إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ * قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ * قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَىٰ أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ * قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ * قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ}.
وفي هذه الآيات إخبار من الله تعالى عن ضيوف النبي إبراهيم من الملائكة الذين دخلوا عليه فقالوا: سلامًا فردّ عليهم السلام، وقدّم إليهم الطعام، فلم يأكلوا منه فأثار ذلك خوفه، فطمئنوه وبشروّه بالولد فتجّب من ذلك لكبر سنّه وعقم زوجته، فأخبروه أنّ هذا هو الحق وقالوا له: لا تكن من القانطين، فأجابهم بأنّه لا يقنط من رحمة الله إلّا الضالون.
وقال الطبري عن معنى آية فلا تكن من القانطين أي أنّ ضيوف النبي إبراهيم قالوا له بأنّهم بشّروه بحقٍّ ويقين، وعلم منهم بأنّ الله تعالى قد وهب له غلامًا عليمًا، فلا تكن من الذين يقنطون من فضل الله فييأسون منه، بل أبشر بما بشّرناك به واقبل البشرى.
ولا يقتضي قول الملائكة: “فلا تكن من القانطين”، أنّ النبي إبراهيم كان قانطًا، بل هو تلّطف من الملائكة -عليهم السلام- في تنبيهه بألّا يكون في زمرة القانطين، وهذا أسلوب معروف في التنبيه ولا يقتضي كون المخاطب في الزمرة والفئة التي جاء النهي عن دخوله فيها.
بل على العكس التحذير يدلّ على عدم الدخول، فلا يقنط من رحمة الله إلّا المكذّبون، وهذا يدل على عدم قنوط النبي إبراهيم إلّا أنّ استبعاده لحصول الولد جعل الملائكة يظنّون قنوطه، فنفى ذلك عن نفسه، فعصمته تتنافى مع القنوط حيث لا يقنط من رحمة ربّه إلّا الضالون، ولا يجوز أن يُنسب القنوط إلى أحد الأنبياء فهم أكمل الخلق عقلًا وإيمانًا.
وجاء عن القرطبي أنّ معنى القانطين أي: الآيسين من الولد وقد كان تعجبه بسبب كبر سنّه، وفي الوسيط للطنطاوي أنّ الملائكة عمدوا على زيادة طمأنة النبي إبراهيم من خلال تبشيره بالولد وتأكيدهم ذلك بأنّ هذا أمر محقّق متيّقن منه، وهو أنّ الله تعالى سيهبه الولد على الرغم من تقدّمه في العمر هو وزوجته، فقدرة الله لا يعجزها شيء ولا يجب أن ييأس الإنسان منها، وقال البغوي أنّ الحق في هذه الآية هو الصدق، فبشارة الملائكة صادقة ومتحقّقة.
ويقول السعدي في تفسيره لآية: فلا تكن من القانطين، أي الذين يستبعدون وجود الخير، وفي التحرير والتنوير أنّ جواب الملائكة للنبي إبراهيم بأنّهم بشّروه بالحق أي الأمر الثابت الذي لا شكّ فيه، فيه إبطال لما اقتضاه استفهامه -عليه السلام- بقوله: “فبمَ تبشّرون”، فهذا الاستفهام والتعجّب يعطي معنى أنّ ما بشّروه به يكاد يكون أمرًا منتفيًا وباطلًا، فجاء كلامه ردًّا على كلامه وليس جوابًا على استفهامه لأنّه استفهام غير حقيقي.
ثمّ جاء النهي عن أنّ استبعاد حصول الولد هو استبعاد لرحمة الله القدير، وذلك بعد أنّ أخبروه بأنّهم مرسلون من عند الله تعالى، وأنّ هذا من القنوط فقالوا له: “فلا تكن من القانطين”، وذلك لأنّ استبعاده حصول ذلك وهو أمر معتاد وقد جاءته البشرى الصادقة على وقوعه لم يزيل الترّدد من حصوله في نفسه، فقاربت حاله تلك حال الذين ييأسون من أمر الله تعالى.
قال ابن عاشور أنّه لما كان النبي إبراهيم منزّهًا عن القنوط من رحمة الله جاءت موعظته بأسلوب أدبي مناسب، فنهته الملائكة عن أن يكون من زمرة القانطين تحذيرًا له ممّا قد يدخله في هذه الزمرة، ولم يفترضوا أن يكون هو قانطًا، وذلك لرفعة مقام النبوة عن القنوط واليأس.
اقرأ أيضا: معنى آية الذين جعلوا القرآن عضين
فوائد من آية فلا تكن من القانطين
- إن اليأس والقنوط من رحمة الله كبيرة من الكبائر، وهو صفة من صفات الكفّار، وسبب من أسباب الكفر لأنّ الإنسان لا يقنط إلّا إذا كان مكذّبًًا الله أو جاهلًا بصفاته.
- القنوط هو انقطاع الأمل وإحباط الروح من تغيّر الحال وهذا منهيٌّ عنه في الإسلام لأنّه من أسباب الكفر والضلال، وقد جاءت الآيات القرآنية لتبيّن ذلك ولتزرع بدلًا من اليأس والقنوط أملًا ورجاءً.
- إن قدرة الله تتجلى وتبرز وتتضّح تمام الوضوح عندما يقطع الإنسان الرجاء من الدنيا وينتهي عن اللجوء إلى الأسباب المادية وينقطع عن البشر ويلجأ إلى ربّ البشر والقادر على خلقهم وإعادتهم.
- القنوط هو صفة وخُلق يتنافى مع إيمان العبد، فالإنسان المؤمن يدعو الله تعالى باستمرار ولا ييأس ولا يقنط من الإجابة ولا يتطرّق إليه شك في قدرة الله على تحقيق مطلوبه مهما كان عظيمًا في نظره.
- إنّ من أنعم الله عليه بنور الهداية وفضلّه بالعلم العظيم فلا سبيل له للقنوط إليه، وذلك لعلمه وإيمانه بكثرة الوسائل والأسباب الجالبة لرحمة الله وعطفه.
- إحسان استخدام الأسلوب المناسب مع المخاطب كلٍّ بحسب موقعه ومكانه هو فقه إسلامي أصيل وأدب قرآني رفيع، وهذا يظهر بجلاء في أسلوب الملائكة مع النبي إبراهيم عليه السلام.
اقرأ أيضا: فوائد من سورة الحجر