إنَّ دأب الكافرين هو الإفك وتكذيب أنبياء الله -تعالى- ورسله، وقد نزلت العديد من الآيات القرآنية التي تفضح كذبهم وكفرهم وتكبرهم في الأرض، ومن بين تلك الآيات قوله تعالى في سورة المائدة:{سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ}، ويكثر البحث عن معنى آية سماعون للكذب أكالون للسحت وتفسيرات العلماء لها مع بيان ما تُرشد إليه هذه الآية الكريمة من فوائد هامة.
معنى آية سماعون للكذب أكالون للسحت
إنَّ معنى آية سماعون للكذب أكالون للسحت؛ أي أولئك اليهود الذين يسمعون الكلام الباطل ويتناقلونه فيما بينهم، مثل قولهم إنَّ محمد ليس بنبي وهو كاذب، أو قولهم إنَّ حدَّ الزاني المُحصن -كما ورد في التوراة- هو الجلد والتحميم، ويحكمون بالرّشوة ويأكلونها ويخالفون أوامر الله ولا ينتهون عما نهى.
وقال في ذلك الحسن أنَّ تلك الآية للحُكَّام الذين يقبلون الرشوة فيأكلونها ويسمعون الكذب ويتناقلونه، وقد ذهب أكثر أهل التفسير في معنى السُّحت أي الرَّشوة، وقال عبد الله في معنى السحت إنَّه الرَّشوة في الدِّين، وقال عمر السُّحت هو الرَّشوة وهو مهر المرأة الزَّانية وبذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه، والسُّحت هو المُقابل الذي يقبل به الرَّجل إن تشفع لآخر في حاجةٍ له.
وقد وقف أهل التفسير والتأويل على سبب نزول تلك الآية فقال بعضهم إنَّها نزلت في جماعةٍ من اليهود قتلوا رجلًا، وقالوا لنذهب إلى محمد فنسأله عن الحكم، فإن أفتى بالدِّية قبلنا حكمه وإن أفتى بالقصاص فلا نسمع منه.
بينما قال مفسرون آخرون إنَّ السبب في نزول تلك الآية هو أنَّ رجلًا وامرأةً يهوديَّان أقدما على الزِّنا، والحُكم في التوراة مثل الحكم في القرآن على الزَّاني المحصن أن يُرجم حدَّ الموت، فأرادوا أن يُبدِّلوا حكم الله فغيروا من الحكم رجمًا إلى الجلد والتَّحميم والركوب على الحمار بشكلٍ مقلوب، وأراد اليهود أن يُؤيدوا كذبهم بكلامٍ من النبيِّ -عليه الصلاة والسلام- فقالوا: نذهب ونحتكم إليه، فإن أفتى بالجلد والتحميم قبلنا منه، وإن أفتى بالرَّجم لا نأخذ منه، فتكون فتيته -عليه الصلاة والسلام- حجةً لنا أمام الله تعالى.
وقد ورد في ذلك عن جابر بن عبد الله أنَّه “جاءت اليهودُ برجلٍ وامرأةٍ منهم زنيا قال: ائتوني بأعلَمِ رجلَيْن منكم فأتَوْه بابنَيْ صوريَّا فنشدهما كيف تجِدان أمرَ هذَيْن في التَّوراةِ؟ قالا: نجِدُ في التَّوراةِ إذا شهِد أربعةً: أنَّهم رأَوْا ذكَرَه في فرْجِها مثلَ الميْلِ في المُكحُلةِ رُجِما، قال: فما يمنعُكما أن ترجموهما؟ قالا: ذهب سلطانُنا، فكرِهنا القتلَ فدعا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالشُّهودِ ، فجاءوا بأربعةٍ فشهِدوا أنَّهم رأَوْا ذكرَه في فرْجِها مثلَ الميْلِ في المُكحُلةِ، فأمر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم برجمِهما”. (( الراوي : جابر بن عبدالله | المحدث : شعيب الأرناؤوط | المصدر : تخريج سنن أبي داود | الصفحة أو الرقم: 4452 | خلاصة حكم المحدث : صحيح ))
اقرأ أيضا: معنى آية وأنزلنا عليكم المن والسلوى
معاني المفردات في آية سماعون للكذب أكالون للسحت
إنَّ تفسير القرآن الكريم وآيات الله -تعالى- يتعذَّر على طالبه طالما أنَّه جاهلٌ باللغة العربية غير عالمٍ بشرح مفرداتها؛ لذلك لا بدَّ من الوقوف على قوله تعالى سماعون للكذب أكالون للسحب من النَّاحية اللغوية حسب معاجم اللغة العربية، وفيما يأتي بيان ذلك:
- سماعون: السَّمع هو إدراك الأصوات بالأذن، والسمع هو حاسة من حواس الإنسان، وسماع الأخبار هو تلقيها والعلم بها، ويُقال هذا الرَّجل سمع الله دعاؤه أي استجاب لدعائه.
- للكذب: الكذب في اللغة هو القول المُخالف للحقيقة مع إدراكها والعلم بها، وهو عكس الصِّدق.
- أكالون: تتعدد المعاني الخاصَّة بكلمة “أكل” حسب السِّياق الذي أتت به، فالأكل بمعناه المُتداول هو الطَّعام وأَكَلَ بمعنى تناول، وأمَّا أكل المال فهو أخذه وصرفه، ويُقال أكلت النَّار المحصول أي دمرته وأتت عليه كاملًا.
- للسحت: السُّحت في اللغة هو الخبيث من المال وما كان قبيحًا غير مستحبٍّ مثل الربا أو الرشوة، وتُستدم كلمة سُحت للمفرد والجمع منها أسحات.
اقرأ أيضا: معنى آية فكنتم على أعقابكم تنكصون
فوائد من آية سماعون للكذب أكالون للسحت
- إنَّ العدل مطلوبٌ من المؤمن مع جميع المخلوقات ومع المؤمنين وغير المؤمنين، فكما أنَّ الله عادلٌ مع خلقه لا بدَّ للمسلم أن يتحلَّى بالعدل حتى مع أبغض النَّاس إليه، وذلك من شأنه أن يُرغِّب غير المسلمين باتباع ذلك الدِّين الذي يأمر المرء أن يكون عادلًا حتى مع أعدائه.
- لقد وضع الله حدودًا للنَّاس في تعاملاتهم المادية؛ حتى لا يكون هناك ظالمٌ ومظلومٌ فالعدل هو أساس الشريعة الإسلامية، فنهى الله تعالى في غير موضع من كتابه عن أكل أموال النَّاس بالباطل وبدون وجهٍ حقٍّ ومن ذلك التَّعامل بالربا بين النَّاس أو بالرشوة وهو ما حرَّمه الله تعالى ونبيه الكريم في غير حديثٍ من الأحاديث النبوية، قال تعالى في سورة البقرة: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}، فالرشوة هي أساس الفساد في المجتمعات، ولا بدَّ لذلك الدِّين القويم من مكافحتها حتى يعمَّ السلام على هذه الأرض، والله في ذلك جميعه هو أعلى وأعلم.
اقرأ أيضا: معنى قوله تعالى ظلت عليه عاكفا