تُعد سورة الجاثية من السور الحواميم؛ وهي السور التي تبدأ أول آية بها باللفظ حم، وهي السورة الخامسة والأربعون بالنسبة لترتيب سور القرآن الكريم، والسورة الخامسة والستون بالنسبة لترتيب نزول سور القرآن الكريم على النبي عليه الصلاة والسلام، وتتعدد مقاصد سورة الجاثية وما اشتملت عليه من موضوعات ولطائف قرآنية.
مقاصد سورة الجاثية
تدور مقاصد سورة الجاثية حول موضوعها العام، وهو الدعوة الإسلامية واستقبال المشركين لهذه الدعوة، وطريقتهم في مواجهة آيات القرآن الكريم وحججه، وإصرارهم على مواجهة حقائق الإسلام بالعناد والجحود، على الرغم من وجود البراهين القاطعة.
ومن مقاصد سورة الجاثية بيانها لإعجاز القرآن الكريم وأنه تنزيل العزيز الحكيم، وإقامة الأدلة على وحدانية الله تعالى وربوبيته وعظم سلطانه وتفرّده بالألوهية وبيان آثار قدرته وخلقه ونعمه التي يجب على الناس شكرها.
تتضمن آيات سورة الجاثية تعليم الرسول -عليه الصلاة والسلام- إرشاد المؤمنين أن يغفروا الذنب لأنّ هذا من أخلاق المؤمن، كما أنّ الغفران من طرق الدعوة التي تجذب الكفار إلى الإسلام، وتبين لهم عظمة المسلمين وأنهم يتجاوزون الإساءات ولا يردونها.
تُبين آيات سورة الجاثية أن الله أعطى بني إسرائيل الحكم والنبوّة ونعمًا كثيرة كي يحملوا رسالة التوحيد، لكنهم لم يكونوا صالحين لحمل هذه الرسالة، فاختار الله نبيه محمد كي يحمل الرسالة لجميع الناس، وفي هذا تحذير لأمة محمد من أن يفعلوا مثل فعل بني إسرائيل.
تُوضح الآيات الوعيد الذي وعده الله للمكذبين المصرّين على الكفر، والتنديد بالمشركين لأنهم اتخذوا آلهة على أهوائهم، وتهديدهم بالجزاء يوم البعث، مع وصف أهوال يوم القيامة، كما تضمنت تحذيرًا للمشركين من أن يتبعوا الضلال.
وصفت السورة المشركين المعرضين بالمستكبرين، لأنهم أعرضوا عن الاعتبار والاتعاظ، وقد وصفت السورة بعض أحوال يوم القيامة عندما تُدعى كل أمة إلى كتابها، إذ يقول تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ}، يُقال لهم ردًا على كفرهم: {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُّجْرِمِينَ}، وقد شبه الله الذين لم يتعظوا بآيات القرآن الكريم بحال بني إسرائيل، لذلك تُعد هذه السورة بمثابة تثبيت للنبي -عليه الصلاة السلام- وتنتهي السورة بالحمد وأن الكبرياء في السماوات والأرض لله تعالى.
اقرأ أيضا: مقاصد سورة الشورى
موضوعات ومضامين سورة الجاثية
ابتدأت السورة بالحديث عن القرآن الكريم، ومصدره، وهو الله العزيز الحكيم الذي أنزل كتابه رحمة بعباده ليكون نبراسا ينير للبشرية طريق الخير والسعادة، وذكرت الآيات الكونية الإلهية في هذا العالم الفسيح، ففي السماوات والأرض آيات ناطقة بعظمته تعالى. قال تعالى: (حم {1} تَنـزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ {2}) إلى قوله تعالى : (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ {6}).
تحدّثت الآيات عن المجرمين المكذبين بالقرآن الكريم والمعرضين عن الإيمان به و أنذرتهم بالعذاب الأليم يوم القيامة، وذلك من قوله تعالى: (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ {7}) إلى قوله تعالى : (هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مَّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ {11}).
تناولت الآيات نعم الله الجليلة على عباده ليشكروه ويتفكروا في آلائه ويعلموا أن الله وحده هو مصدر النعم، قال تعالى: (اللَّهُ الَّذِي سخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ .. {12}) إلى قوله تعالى : (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ {15}).
بينت الآيات مصير من لم يحملوا رسالة التي أداها إليهم وذلك باستعراض مصير بني إسرائيل، مع التأكيد على أن الأبرار لا يتساوون مع الفجّار، كما أوضحت الآيات أن سبب ضلال المشركين هو إجرامهم واتخاذهم الهوى إلها، وذلك من قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ… {16}) إلى قوله تعالى : ( هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمِ يُوقِنُونَ {20}).
تضمنت الآيات بيان حال المستكبرين المعاندين لآيات الله وردت عليهم بالحجج القاطعة على وجود الله تعالى وعظيم قدرته، وذلك من قوله تعالى : (أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا… {21}) إلى قوله تعالى : ( .. مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَن قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ {25}).
خُتمت السورة بذكر الجزاء العادل يوم الدين حين تنقسم الإنسانية لفريقين فريق في الجنة وفريق في السعير، قال تعالى: (قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيبَ فِيهِ.. {26}) إلى قوله تعالى : (وَلَهُ الْكِبْرِيَاء فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ {37}).
اقرأ أيضا: أسباب نزول سورة الجاثية
لطائف سورة الجاثية
تتميز سورة الجاثية باللطائف القرآنية، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى : {وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها}، وفي سورة البقرة قوله -تعالى-: {وما أنزل الله من السماء من ماء}، والمراد بكلمة “الرزق” في هاتين الآيتين الكريمتين هو: الماء؛ لأنه سببه وأصله وبه تنبت الأرزاق وتنمو، أي أنه تم استخدام تسميةٍ للسبب باسم المسبّب.
خُصّص لفظ “الرزق” هنا لتقدم قوله -تعالى-: {وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ} لحاجته هو لا لحاجة الرزق، وفي قوله -تعالى-: {وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ}، وفي سورة الشورى: {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ}، فإنّ المراد في آية سورة الجاثية هو الحديث عن استمرار نعمه وقدرته -سبحانه- على الناس قومًا بعد قومٍ، أمّا في آية سورة الشّورى فالمراد هو ابتداء من خلقه للدواب وبثها في الأرض.
وقد وردت العديد من الأقوال في قوله -تعالى-: {نَمُوْتُ وَنَحْيَا} في السورة الكريمة، ومن أبرز هذه الأقوال، أن مفاد ذلك في الآية هو التقديم والتأخير، وقيل أن المقصود أنه يحيا يعض ويموت بعض، أما القول الثالث هو أن هذا الكلام يعود لمن حكم بالتناسخ والله أعلى وأعلم.
اقرأ أيضا: فضل سورة الجاثية