قال الله تعالى في سورة الأنبياء: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ}، وذلك في سياق الحديث عن قصة إبراهيم عليه السلام مع قومه، ويتساءل الكثير من المسلمين عن معنى آية فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم وتفسيرات العلماء، وما يُستفاد من قصة نبيّ الله إبراهيم مع قومه.
معنى آية فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم
إنّ معنى آية فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم أي فحطم إبراهيم الأصنام وجعلها قطعًا صغيرة، وترك كبيرَها؛ كي يرجع القوم إليه ويسألوه، فيتبيّن عجزهم وضلالهم، وتقوم الحجة عليهم.
اتَّخذ إبراهيم عليه السلام منهج التَّدرج في دعوة قومه إلى عبادة الله، فعندما أعرضوا عن كلامه بدأ بإقناعهم بالأفعال، وفي يومٍ خرج قومه إلى عيدٍ من أعيادهم ودعوه للخروج معهم ولكنَّه اعتذر بأمرٍ ما، فقال: {فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}، وانتظر حتَّى خروج قومه وأقبل على الأصنام يُحطِّمها إلّا كبيرهم جعل الفأس عنده.
قال تعالى في سورة الأنبياء: {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ}، واختلفت القراءات في كلمة جذاذًا فقرأها الكسائيُّ والأعمش ويحيى بن وثاب بالكسر باعتبارها جمعًا لجذيذ أو جذاذ بالاستناد إلى علم الصَّرف مثل كريم تُجمع كِرام وخفيف خِفاف.
وأمَّا ما أجمع عليه عامَّة الأمصار وهو القول المُرجَّح أنَّها تُقرأ بالضّمِّ، وورد عن أهل السَّلف في نفسير كلمة جذاذ أي قطعًا وهو ما قال به قتادة، وأمَّا مجاهدٌ فقد قال جذاذًا أي مثل الصَّريم.
ومما كان دافعًا عظيمًا لإبراهيم لفعلته تلك هو دعوة أبوه له؛ ليذهب لحضور عيدٍ لهم، فقال له: إن حضرت عيدنا أعجبك ديننا وانصرفت عمَّا تدعوننا إليه، ولكن في الطَّريق وأثناء ذهابهم خارج أرضهم لحضور العيد اشتكى إبراهيم رجله وقال إنِّي سقيم.
ولمَّا ولَّى القومُ وبقي ضعاف النَّاس قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ}، فسمع تهديده من كان قد بقي من النَّاس، وانصرف إبراهيم إلى المعبد أو دار الآلهة فوجد بهوًا عظيمًا، وفي صدر البهو صنمٌ عظيم وإلى يمينه ويساره أصنامٌ هي أصغر منه وتليها أصغر وأصغر حتى باب البهو الذي يقف فيه.
وجد نبيُّ الله إبراهيم الطَّعام بين يدي الآلهة قد وضعه القوم بغية مباركة الآلهة له، فإذا رجعوا من عيدهم أكلوا وشربوا، فعمد إبراهيم إلى فأسٍ وبدأ بكسر كلَّ صنمٍ من حافَّتيه، ثمَّ عمد إلى الفأس فجعلها في رقبة كبيرهم أو قيل أنَّه أسندها إلى صدره وكأنَّه هو من قام بتحطيم باقي الأصنام.
وقوله: {إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ}، أيّ إلَّا أعظم آلهتهم لم يمسّه بسوء وهو قول ابن عباس -رضي الله عنه- وأمَّا مجاهد فقال أنَّه أسند الفأس إلى صدر كبير الآلهة الذي لم يحطمه لغايةٍ في نفسه، وقال ابن إسحاق أنَّ إبراهيم ربط الفأس ربطًا بيد عظيم الآلهة ثمَّ ترك كلَّ ذلك وخرج من البهو وكأنَّ شيئًا لم يكن.
اقرأ أيضا: معنى آية اقترب للناس حسابهم
فوائد من آية فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم
إنَّ كلمات الله -سبحانه- وآياته مليئةٌ بالثمار التي تجعل من متدبِّر تلك الآيات نقي الرُّوح صافي القلب هادئ البال، وقد اجتهد علماء القرآن في استخراج تلك الثمرات ومن بينها ثمرات في قوله تعالى فجعلهم جذاذًا إلا كبيرًا لهم، ومن أبرزها ما يأتي:
- إنَّ الله تعالى قال في الآية الكريمة كبيرًا لهم ولم يقل كبيرًا أو الكبير، وفي ذلك تبيينٌ إلى أنَّ كلَّ مبغوضٍ عند الله -سبحانه- لا تُطلق عليه ألفاظ التَّكريم أو التَّعظيم، وقد كان ذلك في خطاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لعظماء الملوك فيقول لهم مثلًا إلى عظيمِ الفرسِ ولا يقول إلى العظيم؛ وذلك لأنَّه عظيمٌ عندهم فقط وليس عظيمًا عند سواهم.
- لا بدَّ للنبي الذي اختاره الله -سبحانه- لتبليغ رسالته من أن يتحلَّى بالشَّجاعة في قول الحقِّ وفعله، فلا يكون خائفًا من قومه أو خجولًا في رسالته التي كلَّفه الله بتبليغها، وقد كان يعلم إبراهيم أنَّ قومه لن يتركوه ينجو بفعلته -من تحطيم الأصنام- ولكنَّه كان يُؤمن بالقضاء خيره وشرِّه، وأنَّهم لن يستطيعوا أن يفعلوا معه ما لم يُقدِّره الله له.
- بدأ إبراهيم دعوته بالكلام الطَّيب واللفظ الحسن والحوار العميق مع من يدعوهم إلى عبادة الله دون كللٍ أو ملللٍ خاصَّةً مع والده الذي كان مؤمنًا ومواليًا للأصنام وعبادتهم، فكان بتلطَّف في قوله معه ويحاججه بالأدلة والبراهين؛ خوفًا من أن يلحقه شيءٌ من عذاب الله.
- القلب الذي تعوَّد الصدود ولم يعتد النُّور لن يستطيع تقبل حياته دون عبثٍ وفساد، فما كان من إبراهيم عليه السىم إلَّا أن يتعرَّض للأصنام التي يعبدوها ويلحق بها الأذى؛ حتَّى يبيِّن لهم ضعف من يطلبون منه القوَّة.
- لم يتعرَّض إبراهيم عليه السلام لأحدٍ من قومه بالكلام الفاحش أو بالشتم أو بالضَّرب، فهو لم يرد من فعله إيذائهم بل أراد أن يُبيِّن لهم ضعف ما يتَّبعون.
- إنَّ الدَّعوة إلى دين الله العظيم لا تحتاج إلى أقوال فقط، بل لا بدَّ في وقتٍ من الأوقات أن يتمَّ إلحاق القول بالفعل، وهو ما فعله إبراهيم -عليه السلام- عندما عمد إلى تحطيم الأصنام وتكسيرهم، وذلك مما كان يحتاج إلى جرأةٍ عظيمةٍ لا يستطيع التَّحلي بها إلا من كان يستند إلى ركنٍ قويٍّ وهو الله جل جلاله.
اقرأ أيضا: معنى آية وأذن في الناس بالحج