امتازت سورة الصافات بقصر مقاطعها وقوة جرس ألفاظها، كما أنّها قد ركّزت على موضوعات عقدية مهمّة، وتكلّمت في مسألة بعث الله للخلق وإحضارهم لمحاسبتهم يوم القيامة، ومن الآيات التي جاءت في هذا السياق، قول الله تعالى: {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا ۚ وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ}، ويتساءل الكثير من المسلمين عن معنى آية وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا وتفسيرات العلماء لها.
معنى آية وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا
إنّ معنى آية وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا أي أنّ هؤلاء المشركين قد جعلوا بين الله تعالى والملائكة نسبًا وقرابة، ولكنّ الملائكة تعلم أنّ هؤلاء سوف يُحضرون للعذاب ويُحاسبون يوم القيامة.
وجاء في تفسير الجلَالين، أنّ المشركين قد جعلوا بين الله تعالى وبين الملائكة وسُمّوا بذلك لسترهم عن البصر والرؤية نسبًا، وذلك بقولهم أنّ الملائكة هم بنات الله، ولقد علم القائلون بهذا القول أنّهم سُيحضرون للنار ليُعذّبوا فيها في الآخرة.
وقال السعدي أنّ المشركين جعلوا بين الله تعالى وبين الجنّة نسبًا بزعمهم أنّ الملائكة بنات الله، وأمّهات الملائكة هم سروات الجن أي أشرافهم وساداتهم، ولكنّ الجنّة يعلمون أنّهم سُيحضرون بين يدي الله ليُجازيهم وهم بحالة العبد الذليل، فلو كان بينهم وبين الله نسبًا لم يقفوا ذلك الموقف.
وورد عن الطبري في تفسيره للآية أنّ هؤلاء المشركون قد جعلوا بين الله تعالى وبين الجنّة نسبًا، ولكنّ أهل التأويل قد اختلفوا في معنى النسب الذي جعلوه لله تعالى، فقال البعض هو قولهم بأن الله -تعالى وتقدّس- وإبليس إخوان.
وقد نُقل هذا القول عن ابن عبّاس -رضي الله عنهما- وقال آخرون أنّ المقصود بالجنّة الملائكة والنسب هو قولهم بأنّ الملائكة بنات الله، وفي الأثر الذي ذكره مجاهد في تفسير هذه الآية، أنّ كفار قريش قالوا: الملائكة بنات الله، فسأل أبو بكر: من أمهاتهن، فقالوا: سروات الجن، فهم يحسبون أنّ الملائكة قد خُلقوا ممّا خُلق إبليس.
وعن قتادة قال: أنّ اليهود قالوا إنّ الله -تبارك وتعالى- تزوّج من الجن فخرج منهما الملائكة، كما ذُكر هذا التفسير عن أكثر من واحد من أهل العلم، وقال ابن زيد أنّهم افتروا ذلك النسب، كما ذكر الطبري اختلاف أهل العلم في قوله “ولقد علمت الجنّة إنّهم لمحضرون”، فقال البعض أنّ الجنّة هي التي ستحضر للحساب، وقال البعض الآخر أنّ المقصود بالذين سيُحضرون هم قائلوا هذا القول ومفتروا هذا الافتراء.
وقال القرطبي أنّ أكثر أهل العلم على أنّ المقصود بالجنّة في هذا الموضع الملائكة، ووجه تسميتهم بالجنّة احتجابهم عن الرؤية وعدم قدرة الإنسان العادي مشاهدتهم، ونقل عن مجاهد أنّ المراد بطن من بطون الملائكة يُقال لهم الجنّة، كما جاء في الأثر عن بعض السلف أنّهم قيل لهم جنّة لأنّهم خُزّان على الجنان، وأنّ الملائكة كلّهم جنّة.
ومعنى نسبًا أي مصاهرة، حيث قال قتادة والكلبي ومقاتل أنّ اليهود قالوا أنّ الله تعالى صاهر الجن فكانت الملائكة من بينهم، وقال مجاهد والسُدّي وفي أثر آخر عن مقاتل أنّ القائلين بذلك هم كنانة وخزاعة، حيث قالوا: أنّ الله تعالى قد خطب من سادات الجن فزوّجوه من سروات بناتهم، فالملائكة بنات الله من سروات بنات الجن، وعن الحسن البصري أنّ المقصود بالنسب في هذه الآية، إشراكهم الشيطان في عبادة الله تعالى.
وفي نظم الدرر للبقاعي أنّه لم تمّ بيان الله تعالى لإظهار ضلالة هؤلاء وبّخهم بأسلوب آخر فيه إعراض عن خطابهم وتخويف لهم من وقوع العذاب بهم، فقال: “وجعلوا”، أي: بعض العرب وهم الذين نبذوا الأدلة على وحدانية الله تعالى، ووجوب الإيمان به، فجعلوا بين الله تعالى وبين الجن وهم شر الطوائف نسبًا، وقد جاء اللفظ مؤنثًا لتحقيرهم وتصغير شأنهم عن هذا الأمر الذين نسبوهم إليه.
والمقصود بالنسب قولهم أنّ الله -جلّت أوصافه وتقدّس وتعالى- قد تزوّج من بنات سروات الجن، وأنجب منهن الملائكة، ومن المعلوم أنّ لا أحد يتزوّج إلّا من جنسه فهم بقولهم هذا قد أبعدوا غاية البعد لأنّ الله تعالى ليس له مثيل ولا مجانس، ولأنّ النسيب يُكرم ولا يُهان تكرّرت الآية بتأنيث الضمير العائد على الجن زيادة في تحقيرهم وتصغير شأنهم.
فمعنى قوله: ولقد علمت الجنّة إنّهم لمحضرون”، أي جميع الجن السروات والأسافل سيُحضرون يوم القيامة مع بقية الخلائق للحساب والجزاء كرهًا وبلا رغبة منهم.
اقرأ أيضا: معنى آية فالزاجرات زجرا
فوائد من آية وجعلوا بينه وبين الجنة نسبا
- وجوب تنزيه الله تعالى عن مشابهته لأحدٍ من خلقه وللكثير من الأفعال والصفات التي لا تصح في حقّه كمسألة الولد والإنجاب.
- أهمية إدراك قصور قدرة الجن على تغيير الأقدار وقصور علمهم عن معرفة الغيب ورفع الأذى والعذاب.
- خطورة الاستعانة بالجن وتعظيم شأنهم وتهويل قدرهم، وفعل أفعال محرّمة كالكهانة والعرافة والسحر.
- معرفة الجن بحجمهم وأنّهم محاسبون ومجزيون وسُيحضرون في اليوم الآخر ولا حول لهم ولا قوة في ردّ ذلك، فلو استطاعوا نُصرة أحد فلينصروا أنفسهم.
- الإيمان بالله والتصديق بالأخبار التي جاء بها أنبياء الله هو سبيل معرفة الله وتقديسه وتنزيهه عن كلّ ما لا يجب في حقّه، فالأنبياء الكرام هم الذين أرشدوا البشرية للحق والصواب في أمر الدنيا والآخرة.
اقرأ أيضا: معنى آية ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله