إنّ قصص الأقوام السابقة التي أرسل لها الله تعالى الرسل وأنزل عليهم الكتب كثيرة في القرآن الكريم، ومن أبرز هذه الأقوام بنو إسرائيل؛ الذين كثُر الأنبياء الذين أُرسلوا إليهم، وذكر القرآن خطاب الله تعالى إليهم في غير آية من القرآن الكريم، ويهتم الكثيرون بالتعرف على هذه الآيات ومعانيها، وخاصةً معنى آية وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور الواردة في سورة البقرة.
معنى آية وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور
إنّ معنى آية وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور أي واذكروا -يا بني إسرائيل- حين أَخَذْنا العهد المؤكَّد منكم بالإيمان بالله وإفراده بالعبادة، ورفعنا جبل الطور فوقكم، وقلنا لكم: خذوا الكتاب الذي أعطيناكم بجدٍ واجتهاد واحفظوه، وإلا أطبقنا عليكم الجبل، ولا تنسوا التوراة قولا وعملا كي تتقوني وتخافوا عقابي.
وقد قال الإمام الطبري في تفسيره لقوله تعالى: وإذ أخذنا ميثاقكم، أنّ الميثاق يكون إمّا بيمين أو بعهد أو غير ذلك من الوثائق، والميثاق المقصود في هذه الآية هو الذي أخبر عنه تعالى في قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}.
نُقل عن ابن زيد أنّه لما رجع النبي موسى ومعه الألواح؛ قال لقومه وهم بنو إسرائيل: أنّ هذه الألواح فيها أوامر الله ونواهيه، فرفضوا أن يُصدّقوا أنّها من عند الله حتى يروا الله جهرةً، ويقول لهم أنّها من عنده ويأمرهم بالأخذ بما فيها، فأرسل الله تعالى عليهم صاعقة فماتوا جميعًا ثمّ أحياهم، ولكنّهم استمروا في رفض الأخذ بما في الألواح، فأرسل الله ملائكة فنتقت الجبل فوقهم، فقيل لهم: أتعرفون هذا؟ قالوا: نعم، هذا الطور، وأُخبروا بأنّهم إن لم يأخذوا الكتاب فسيقع عليهم، فكان هذا ميثاقهم.
وقد قال ابن زيد بأنّهم لو أخذوه من البداية لأخذوه بلا ميثاق، وقال الطبري بأنّ العلماء اختلفوا في ماهية الطور على الحقيقة، حيث قال البعض بأنّه يعني الجبل في كلام العرب، وقال آخرون بأنّه ما أنبت من الجبال دون غيره، وقيل هو اسم لجبل بعينه وهو الجبل الذي ناجى نبي الله موسى ربه عليه، وقد قال ابن عبّاس أنّ الطور هو الجبل الذي أُنزلت عليه التوراة.
وفي معنى قوله تعالى: ورفعنا فوقكم الطور، قال مجاهد بأنّ النبي موسى قد أمر قومه أن يدخلوا الباب ويقولوا: حطة، وقد أُنزل لهم الباب ليسجدوا، فلم يسجدوا ودخلوا على أدبارهم، وقالوا: حنطة، فرُفع الجبل فوقهم وأُخرج أصله من الأرض وصار كالظلّة، فدخلوا سُجّدًا كما أُمروا وهم خائفون وينظرون إلى الجبل.
وقد ذكر مجاهد بأنّ الطور هو الجبل بالسريانية، وهو الجبل الذي ناجى النبي موسى ربّه عليه، ونُقل أيضًا عن مجاهد بأنّ الجبل قد رُفع فوقهم كالسحابة وقيل لهم لتؤمنوا أو ليقع عليكم فآمنوا، وعن قتادة بأنّهم كانوا في أسفل الجبل فرُفع عليهم وقيل لهم لتأخذون بأمر الله أو ليُرمى عليكم، وعنه أيضًا أنّ الله تعالى قد اقتلع الجبل ورفعه عليهم، وقال لهم: خذوا ما آتيناكم بقوة، فأقروا بذلك.
وجاء عن ابن كثير في تفسيره لهذه الآية أنّ الله تعالى يُذكّر بني إسرائيل بما أخذه عليهم من العهود والمواثيق بالإيمان به وحده واتباع رسله، وأخبر بأنّ رفع الجبل على رؤوسهم كان ليقروّا بما عوهدوا عليه، وكي يأخذوا هذا العهد بقوة وحزم وهمّة وامتثال، ومنه قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}.
كما نُقل عن ابن عباس أنّهم لمّا امتنعوا عن الطاعة رُفع عليهم الجبل حتى يسمعوا فسجدوا امتثالًا، وقال السُّدي: أنّهم لمّا رفضوا السجود لله تعالى أمر سبحانه الجبل أن يقع عليهم، فلمّا رأوه قد أظلّهم خافوا فسجدوا على شقٍّ واحد، ونظروا بالشقّ الآخر -أي الجهة من الجسد- فرحمهم الله تعالى وكشف عنهم الجبل، وقيل: ما سجدةٌ أحبّ إلى الله من سجدةٍ كشف بها العذاب عنهم.
اقرأ أيضا: معنى قوله تعالى زهرة الحياة الدنيا
فوائد من آية وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور
حملت قصص بني إسرائيل الكثير من العبر والحِكم في طياتها وتفاصيلها، والآيات التي تحدّثت عنهم كثيرة جدًا؛ والعاقل من اعتبر بتلك الأخبار وترك العناد والجحود والمكابرة، وواظب على الطاعة والالتزام بلا تعنّت ولا تنطّع، وفيما يأتي ذكرٌ لبعض الفوائد التي يمكن استجلائها من آية وإذ أخذنا ميثاقكم ورفعنا فوقكم الطور:
- تدرُّج الله تعالى مع عباده حيث ذكر في غير ما آية كيف أنّه أخذ ميثاق بني إسرائيل وهو الإله القادر ومع استمرارهم بالعناد والتحريف إلّا أنّه أمهلهم كثيرًا وعفا عنهم حتى يتوبوا ويؤمنوا ويرجعوا عن أعمالهم، ومن كرمه سبحانه أن جعل باب التوبة مفتوح حتّى تخرج الروح من بني آدم وفي هذا إمهال عظيم للعباد ولكنّه لا يعني الاستمرار على الذنوب على أمل التوبة بعد مدّة، فأجل الإنسان لا يعلمه إلّا الله، وعذابه شديد وعقابه مُنجز.
- كل ما كان من الأمور والعهود التي تضمنّتها مواثيق بني إسرائيل هي لمصلحتهم في الدنيا والآخرة، ولكنّ الاستكبار البشري والجهل جعلهم يظنّون أنّ في عدم التزامهم وتبديلهم للأوامر الإلهية خيرٌ لهم فأعملوا عقولهم القاصرة وابتعدوا عن شرع الله فاستحقوا الجزاء الربّاني العادل، وكذا جميع الشرائع الإلهية التي ختمها الله بالإسلام وجعله دين هداية للبشرية جمعاء ولن ينالوا الخير ما لم يلتزموا بشرائعه ويعتقدوا بعقائده.
اقرأ أيضا: معنى قوله تعالى ضنكا