جعل الله تعالى الحياة الدنيا دارًا للبلاء؛ لكي يميز الخبيث من الطيب، وهذا البلاء ليس مقتصرًا على فئة من الناس دون غيرهم، بل هو سنة الله في خلقه لكل من آمن به، فلا بد من التعرض لبعض المصائب، ومن بين الأنبياء الذين تعرضوا للبلايا نبي الله يوسف عليه السلام الذي ابتلاه الله بعشق امرأة العزيز له، حتى انتشر هذا الخبر، وصار حديث نسوة مصر، وقد ذُكرت هذه القصة في سورة يوسف؛ ولهذا يبحث الكثيرون عن معنى آية قد شغفها حبا الواردة في السورة المباركة.
معنى آية قد شغفها حبا
إن معنى آية قد شغفها حبا أي أن حبه قد تعلق بقلبها، أو غلف حبه قلبها، فأصبحت غافلة عن كل ما سواه، والمقصود بذلك حب امرأة العزيز وهيامها بنبي الله يوسف عليه السلام، وقد يُراد بهذه الآية أن امرأة العزيز أحبته حبًا جمًا، حتى تمكّن هذا الحب من الاستقرار في دواخل قلبها، فهذه صورة بديعة تُعبر عن اختراق حب يوسف عليه السلام لجلد قلبها بحيث يمكث داخله.
لم يكن حب امرأة العزيز لنبي الله يوسف أمر خفيًا، بل شاع حبها حتى تحدث به نسوة مصر وأشرافها، وقد ذكروا هذا العشق الذي شغل امرأة العزيز وألهى قلبها، كما قالوا أنها تراود ذلك العبد الكنعاني عن نفسه، لدرجة أن حبه غلب أي شيء عداه.
اختلف العلماء في تفسير معنى الشغاف، فقالوا عنه أنه الجلد الرقيق الذي يوجد على القلب، كما قالوا الحجاب أو الغلاف الذي يستر القلب، وقد قال عكرمة في تفسيره لهذه الآية أن حب يوسف عليه السلام دخل في قلب امرأة العزيز، واستقر تحت الشغاف، بينما قال مجاهد في معنى الآية: كان حب يوسف في شغاف قلبها.
بيّن الإمام ابن عباس في تفسيره لتلك الآية أن حب يوسف علق في قلبها، وتحكم من نفسها، فغلب عليها، وقد استعملت الآية الكريمة لفظ الشغف على وجه الخصوص؛ لأن المحب الذي يُفتن بمحبوبه يُقال عنه أنه مشغوف، بينما قال أبو الرجاء وأبو الحسن أن حب يوسف قد بطنها، بينما قال الضحاك كان حب يوسف ملاصقًا لقلبها، وحدّث عبيد بن سليمان فيما جاء في معنى قد شغفها حبًا أي هلكت المرأة بحبها لنبي الله يوسف.
تتعدد قراءات أهل التفسير للآية، فمنهم من قرأها بالغين، ومنهم من قرأها بالعين، فقد قال أبو الرجاء {قد شعفها حبًّا}، وبذلك قال الأعرج وعوف، ومعنى “شعف” أي عمّ، أن حب يوسف عليها السلام عمّ قلبها، كما أن الكلمة تُطلق أيضًا على الدابة إذا خافت، ولكن العرب يستعملونها في غير موضعها، فيكون شعف المرأة أي حبها، وشعف الدابة أي ذعرها.
استنكر بعض العلماء قراءة شعف بالعين، حيث قال ابن زيد أن الشعف من الكلمات التي تدل على البغض والخوف، بينما الشغف من الكلمات المعبرة عن الحب والعشق، وبذلك فإن الأصح قراءة الآية بالغين، ولكن هذا الكلام غير دقيق، حيث تُستعمل كلمة الشعف عند العرب في عموم الحب، وهذا لا يتنافى مع أن قراءة الآية بالغين أصح.
اقرأ أيضا: تجربتي مع سورة يوسف
فوائد من آية قد شغفها حبا
- تُعد قصة نبي الله يوسف من أعظم القصص، وذلك مصداقًا لقوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ}، وذلك لما تشتمل عليه من العبر والعظات التي يحتاجها المسلم ليُربي نفسه عن البعد عن الشهوات، مع ضرورة الاعتصام بحبل الله.
- تؤكد الآية الكريمة على السلطة العظيمة التي يمتلكها الجمال على النفوس، فبما كان يمتلكه نبي الله يوسف من بهاء الطلة، وحسن الطلعة، جعل من النسوة أسيرات لجماله، فتعلق قلب امرأة العزيز به، وقطعت نسوة المدينة أيديهن.
- تناقلت نسوة المدينة خبر عشق امرأة العزيز ليوسف -عليه السلام- ومع معرفتهن بها شخصيًا وباسمها إلا أنهن لم يقلن فلانةٌ قد عشقت غلامها بل قالوا امرأة العزيز؛ وذلك لأن النفس البشرية تطلع إلى معرفة أخبار علية القوم، وقد وصفوها بلقبها حتى يكون الخبر أوسع انتشارًا.
- إن الفراغ الذي يعيشه الإنسان بمثابة السم القاتل، فلو كان لامرأة العزيز من الأعمال ما يشغلها عن الوقوع في حب نبي الله يوسف، لما انشغل قلبها به لهذا الحد، ولو كان لنسوة المدينة ما يشغلهن عن الفراغ، لما تحدثوا بخبر امرأة العزيز مع غلامها؛ لذلك يجب على الإنسان أن ينشغل بنفسه وبمصلحته بدلًا من الاهتمام بأخبار الناس وأحوالهم.
- يقع صلاح الأمة على الشباب، وذلك لأن المرء في هذا العمر يكون في أقصى درجات القوة، ورغم افتتان النسوة بيوسف عليه السلام، إلا أن ذلك لم يُثنيه عن إيصال الرسالة، وصلاح الأمة، فلم يلتفت إلى الملذات الجسدية المحرمة.
- حُفّت الجنة بالمكاره، بينما حُفت النار بالملذات والشهوات، وعلى المحبين لله، والمتمسكين بدينه أن يُفضلوه عن سواه، وعلى من يرغب في نيل الجنة التي عرضها السموات والأرض، أن يتعفف ويترفع عن رذائل الحياة الدنيا.
اقرأ أيضا: معنى آية الطيبون للطيبات والخبيثون للخبيثات