تُعتبر سورة المائدة من السور المدنية التي نزلت في أواخر حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويبلغ عدد آياتها 120 آية، وهي إحدى السور السبع الطوال، وتشتمل موضوعات ومضامين سورة المائدة على قضية التشريع بإسهاب، إلى جانب موضوع العقيدة وقصص أهل الكتاب، كما أنها تعتني بالتوصية بأهمية الوفاء بالعقود والمواثيق بكل أنواعها.
موضوعات ومضامين سورة المائدة
العهود والمواثيق مع أمة محمد عليه السلام
ابتدأت سورة المائدة بالحديث عن بعض الأحكام الشرعيّة وأهمها: أحكام العقود والذبائح والصيد والوضوء، وأمرت بالاستقامة والعدل وذلك لبيان الحلال والحرام، مذكرةً بنعم الله تعالى الجليلة على عباده بالهداية إلى الإسلام ودفع الشرور عنهم، ويتجلى ذلك من بداية السورة حيث قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ {1} ) إلى قوله تعالى : (وَاتَّقُواْ اللّهَ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ {11}).
ميثاق الله مع اليهود و النصارى
أعقبت آيات السورة ذلك ببيان الميثاق الذي أخذه الله تعالى على أهل الكتاب ونقضهم إياه، ومعاقبة الله تعالى لهم بتسليط بعضهم على بعض، وفي الآيات دعوة إلى الاهتداء بنور القرآن الكريم، وذلك من قوله تعالى : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيـباً {12}) إلى قوله تعالى : (فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {19}).
سوء أدب اليهود مع الله
ذكرت الآيات تمرد بني إسرائيل وعصيانهم لأمر الله لهم بالقتال في سبيله، وعقابه تعالى لهم بجعلهم يتيهون في الأرض أربعين سنة، وذلك من قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء {20}) إلى قوله تعالى : (فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ {26}).
جرائم وعقوبات
تناولت سورة المائدة قصّة ابني آدم قابيل وهابيل، وعصيان (قابيل) وقتله النفس البريئة التي حرمها الله بغير الحقّ، ومن ثم أعقبتها ببيان عاقبة الإفساد في الأرض، وفتح باب التوبة للتائبين وبيّنت الآيات عقاب الضالين، كما بيّنت حدّ السرقة وأنه تعالى غفار لكل من آمن وتاب، وذلك من قوله تعالى : (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ{27}) إلى قوله تعالى : (يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {40}).
تلاعب أهل الكتاب والمنافقين بأحكام الله
عالجت سورة المائدة أمر أهل الكتاب والمنافقين في حسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم وتربصهم به وبأصحابه الدوائر، وبيَّنت الآيات أن الله تعالى سيعصم رسوله من شرّهم وينجيه من مكرهم، ثم ذكرت ما أنزل الله من أحكام نورانية في شريعة التوراة والإنجيل والقرآن الكريم فكلها كتب سماوية فيها حكم الله تعالى وقد نسخها القرآن الكريم وجاء الأمر الإلهي باتِّباع أوامر الله تعالى فيه، من قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ {41}) إلى قوله تعالى : (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يـَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْمـاً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ{50}).
المفاصلة بين المسلمين وأهل الكتاب
حذَّرت آيات سورة المائدة من موالاة اليهود والنصارى، وفي ذلك السياق عدّدت الآيات جرائم اليهود وما اتهموا به الذات الإلهية المقدسة من شنيع الأقوال وقبيح الفعال، من قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ.. {51}) إلى قوله تعالى : (مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ {66}).
عصمة الرسول وتحريفات أهل الكتاب
بيّنت الآيات أمر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بتبليغ الدعوة ووعده له بالحفظ والنصرة، ثم تحدثت عن تحريف أهل الكتاب لكتبهم السماوية وكفرهم بالرسل الذين أرسلوا من الله إليهم، واعتقادهم بألوهية عيسى عليه السلام ، إضافةً إلى سخطه تعالى على أهل الكتاب، فقد كانوا لا يتناهون عن المنكر فيما بينهم، ويتخذون الكافرين أولياء، فكانت عاقبتهم الخلود في نار جهنم، من قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ.. {67}) إلى قوله تعالى : (وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَـكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ {81}).
علاقة أهل الإسلام بغيرهم
تضمنت الآيات الحديث عن عداوة اليهود الشديدة للمسلمين، وقد بيّنت أن النصارى ألين عريكة من اليهود في التعامل مع المسلمين، وذلك من قوله تعالى: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ.. {82}) إلى قوله تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَٰئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ {86}).
بيان الأحكام الشرعية
عادت إلى الأحكام الشرعية فذكرت منها: كفّارة اليمين، وتحريم الخمر والميسر، وجزاء قتل الصيد في حالة الإحرام، من قوله تعالى : (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين{87}) إلى قوله تعالى : (أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ {96}).
من نعم الله على عباده
أوضحت الآيات أن الله تعالى قد جعل الكعبة قياماً للناس، وأنّه ركز في القلوب تعظيمها، وجاء في الآيات نهي الناس عن السؤال عن أشياء إن بدت لهم ساءتهم كحال آباءهم في الجنة أم في النار كما جاء في الآيات ذمٌّ للمشركين حين أحلّوا ما حرم الله تعالى، كما دعّت الآيات لإصلاح النفس وتهذيبها، ويتجلى ذلك من قوله تعالى : (جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ.. {97}) إلى قوله تعالى : (إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ {105}).
الإشهاد والقسامة
شدّدت الآيات على أهمية الوصيّة عند دنو الأجل وأمر الناس بتقوى الله، وذلك من قوله تعالى: (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ {106}) إلى قوله تعالى : ( ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ {108}).
عيسى بين يدي الله تعالى في القيامة
أخبرت الآيات عن يوم القيامة وأهواله، وسؤال الله تعالى الرسل عن أممهم، وبعد ذلك انتقل الحديث في الآيات للإخبار عن المعجزات التي أيد بها الله عبده ورسوله عيسى عليه السلام فضلاً عن التذكير بمعجزة المائدة التي أنزلها تعالى على بني إسرائيل من السماء، ومن ثم ختمت السورة الكريمة ببراءة المسيح عيسى بن مريم عليه السلام من دعوى الألوهية، وذلك من قوله تعالى: (يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ {109}) إلى قوله تعالى : (لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {120}).
اقرأ أيضاً: أسباب نزول سورة المائدة
لطائف من سورة المائدة
بعد تناول موضوعات ومضامين سورة المائدة فتجدر الإشارة إلى بعض اللطائف القرآنية التي وردت في قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} تجدر الإشارة إلى الفرق بين “أتممت” و “أكملت”، وقد أجاب الدكتور فاضل السامرائي عن هذا الاستفسار بقوله بأنّ التمام هو نقيض النقص، أما الكمال هي الحالة المثلى تحديدًا وليس مجرد الاكتمال فقط أو سدّ النقص، فعلى هذا فإنّ التمام لا يقضي الكمال، وإنما الكمال هو التمام مع زيادة.
وقد قال الله -جلّ وعلا- في هذه الآية الكريمة: “أتممت عليكم نعمتي” لأن النعم لا تعد ولا تحصى فهي في ازدياد دائماً لذا سبقها بكلمة أتممت، فهو قد أعطى عباده حاجتهم من النعم وأتمها ولكن لو أراد الزيادة فيزيد، أما عندما قال تعالى: “أكملت لكم دينكم” ربط الدين بالكمال لأن الدين لا يُزاد عليه وهو الحالة المثلى لا يزاد عليه لا في سنة ولا غيرها ووضح كل شيء من السنن والفروض ولم ينقص شيئاً، فالدين الإسلامي هو الدين الأكمل والأمثل في كل زمانٍ ومكان، والله تعالى أعلم.
اقرأ أيضاً: فوائد من سورة المائدة