ورد في الإنجيل على لسان المسيح ” لا تقاوم الشر، من لطمك على خدك الأيمن فحول له خدك الأيسر”، أما على لسان النبي المحمد عند فتح مكة فقد سأل أهل مكة: ما تظنون أني فاعل بكم ؟ فأجابوه: أخ كريم وابن أخ كريم فقال لهم اذهبوا فأنتم الطلقاء”، لذلك يتناول هذا المقال موقف النبي في فتح مكة والدروس والعبر المستفادة منه.
ما تظنون أني فاعل بكم
كان موقف النبي في فتح مكة تعبيرًا عن العفو عند المقدرة من الأمور التي لا يتحلى بها إلا القليل من الناس، وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة حين قال لأهل مكة: ما تظنون أني فاعل بكم؟ فرد عليه القوم: أخ كريم وابن أخ كريم. فقال قولته الخالدة: اذهبوا فأنتم الطلقاء. ولم يتحمل المشركون المفاجأة فأسلم الكثير منهم، لما رأوا من خلق الإسلام ونبيه.
فمن المتوقع أنه ومع كل هذا التطور والإرتقاء التكنولوجي الذي لم تشهد مثله الإنسانية شبيهاً طوال السنين والعقود والقرون والألفيات التي تعاقبت عليها، أن تزداد نسبة التسامح بينهم، إلا أن العكس هو الذي حصل، فازدادت نسبة القتل وسفك الدماء فشهدت البشرية حربين عالميتين طاحنتين في أقل من ثلاثين سنة في القرن الماضي راح ضحيتهما ملايين الأبرياء. فمن الواضح أن الإنسان قد اعتد بنفسه أكثر من اللازم، ونسي حجمه الحقيقي في هذا الكون.
ومما زاد الطين بلة أيضاً، ازدياد وتعاظم المنظور المادي في الحكم والتعامل بين البشر في ظل غياب وتغييب للمنظور الروحي، وكان من أبرز أشكال هذا المنظور الفكرة الرأسمالية، التي أظهرت أبشع ما في الإنسان وخلقت عبودية القرن العشرين العبودية الجديدة، عبودية الإنسان لأخيه الإنسان عن طريق جعله ذليلاً راكضاً لاهثاً وراء قوت يومه وساعياً وراء الفتات، مهدراً بذلك أغلب وقته في العمل، فلقد سلبت إرادة الإنسان، وسلب وقته وسلب عقله وكل ذلك عن طريق الإغراءات المادية.
والمضحك في الموضوع، أن هذا اللاهث وراء المال، والذي يعمل عند غيره، يجد نفسه في نهاية المطاف واقفاً مكانه، هذا إن لم يجد نفسه قد هبط إلى مستويات أدنى مما كان عليه، وفي ظل هذا الهبوط يزداد غنى رب العمل، فالقاعدة تقول، أنه وفي مقابل كل شخص يزداد فقراً هناك من يزداد ثروةً.
النظرة المادية، أفقدت الإنسان جميع المعاني الجميلة التي كانت فيه، جاعلة إياه وحشاً من الوحوش، ومن هنا فقد ضاع مفهوم التسامح، ومبداً ” ما تظنون أني فاعل بكم ” في ظل هذا الصراع الوحشي الحيواني بين بني البشر على أطماع الدنيا، وفي ظل غياب القيم، وغياب الحب بينهم، فالحب هو أساس الحياة وسرها الذي بدونه لا يمكن استمرار الحياة نهائياً، حب الإنسان لله يجعله يحب مخلوقاته بحبه لله، فمن أحب شيئاً أحب كل ما ينتسب إليه وكل ما يتعلق به، وبالتالي سمت نفسه وتألقت روحه وعادت باقي القيم والمبادئ الإنسانية السامية التي لا يمكن للحياة الاستمرار بدونها ولا بأي حال من الأحوال.
ومن طيب أخلاق الرسول ونقاء سريرته، وأهداف الإسلام العظيمة والتي لا تهدف إلى إراقة الدماء، وإنما إلى نشر المحبة والتسامح بين الناس، فقد عفى الرسول عن أهلها بعد فتح مكة وهم خاضعين، حيث كان هذا العفو من مكان قوة، وهذا يدل بدرجة أساسية على عظم الأخلاق التي كان يتحلى بها المصطفى ومن معه.
دروس وعِبر من فتح مكة
أعطى فتح مكة درسًا بليغًا في المسامحة والعفو وطيب النفس، فإذا كان المسلمون قد قُتلوا هنا من قبل وعُذبوا، فإن النبي لم يرد الأمر بالمثل وعفا عن المشركين وأمنهم في على أنفسهم وأموالهم.
ومن الدروس المستفادة الإعداد والتجهيز للعدو وإرهابه بالقوة اللازمة التي تجعله يجثو على قدميه، حيث أعد النبي العدة والعتاد، وأحسن الصبر حتى اكتملت الصفوف، ثم توكل على الله وعزم أمره على فتح مكة، فكانت له الغلبة بإذن الله، ونستفيد من ذلك أنه يجب أن نجهز للأمر قبل أن نقوم به، وأن نعطي للشيء ما يستحق من التقدير.
أعطى فتح مكة رسالة واضحة على مشروعية مباغتة العدو في عقر داره، وعلى مشروعية السفر في شهر رمضان مع إمكانية الفطر أو الصوم على حد سواء. وأنزال النبي صلى الله عليه وسلم الناس منازلهم فجعل أبا سفيان، وهو رجل يجب الفخر، منزلة حسنة فجعله ينادي القوم: “ من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن“. وعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم التواضع من خلال تواضعه في نصره، وأنه ما جاء ليقتل أو يشرد الناس، ولكنه دعاهم إلى الخير وعفا عنهم وكان قادرًا على قتلهم جميعًا.
لقد كان فتح مكة رسالة للتجاور والتعايش بين الناس دون قتل أو تخريب، وأن تعلو القيم الإنسانية وتسود، وأن تكون راية الحق عالية خفاقة، وأن يكون الناس متحابين. وتلك هي رسالة الإسلام في كل زمان ومكان.
اقرأ أيضًا:
المصادر: