جاء الإسلام ليقضي على الظواهر المنبوذة مثل العصبية القبلية، فساوى بين الجميع، بل وأنصف كل الناس والأمم، الأبيض والأسود، الفقير والغني، القوي والضعيف، لا أحد يتجاوز الحق، ولا أحد يحيد عنه انطلاقًا من قول النبي صلى الله عليه وسلم “اتركوها فإنها منتنة”.
اتركوها فإنها منتنة
لما كَسَع غلامٌ من المهاجرين غلامًا من الأنصار في غزاة بني المصطلق، واستغاث الأول: يا لَلْمهاجرين، ونادى الآخر: يا لَلأنصار، سمِع ذلك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «مَا بَالُ دَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ»، فحكوا له ما جرى، فقال -صلى الله عليه وسلم-: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ». (( الراوي : جابر بن عبدالله | المحدث : ابن حبان | المصدر : صحيح ابن حبان، الصفحة أو الرقم: 5990 | خلاصة حكم المحدث : أخرجه في صحيحه ))
إن كثيرًا من الشراح ليذهبون إلى أن المراد بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» هُتافُ الغلامين: يا لَلْمهاجرين، و: يا لَلأنصار، لكنّ روايةً في “مسند الإمام أحمد” ترجح غير ذلك، وتبين أن المراد بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»: الكسعةُ.
قال النووي رحمه الله في “شرح مسلم” : ” وَأَمَّا تَسْمِيَته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَلِكَ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة فَهُوَ كَرَاهَة مِنْهُ لِذَلِكَ ; فَإِنَّهُ مِمَّا كَانَتْ عَلَيْهِ الْجَاهِلِيَّة مِنْ التَّعَاضُد بِالْقَبَائِلِ فِي أُمُور الدُّنْيَا وَمُتَعَلِّقَاتهَا , وَكَانَتْ الْجَاهِلِيَّة تَأْخُذ حُقُوقهَا بِالْعَصَبَاتِ وَالْقَبَائِل , فَجَاءَ الْإِسْلَام بِإِبْطَالِ ذَلِكَ , وَفَصَلَ الْقَضَايَا بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة . فَإِذَا اِعْتَدَى إِنْسَان عَلَى آخَر حَكَمَ الْقَاضِي بَيْنهمَا , وَأَلْزَمَهُ مُقْتَضَى عِدْوَانه كَمَا تَقَرَّرَ مِنْ قَوَاعِد الْإِسْلَام.
أحاديث في ذم العصبية القبلية
عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : “لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ” (( الراوي : جبير بن مطعم | المحدث : ابن القيسراني | المصدر : ذخيرة الحفاظ، الصفحة أو الرقم: 4/2040 | خلاصة حكم المحدث : [فيه] روح بن شبابة قال ابن عدي : ضعيف ))
معنى (لَيْسَ مِنَّا) : أَيْ لَيْسَ مِنْ أَهْل مِلَّتنَا و(مَنْ دَعَا): أَيْ النَّاس (إِلَى عَصَبِيَّة) : قَالَ الْمَنَاوِيُّ : أَيْ مَنْ يَدْعُو النَّاس إِلَى الِاجْتِمَاع عَلَى عَصَبِيَّة وَهِيَ مُعَاوَنَة الظَّالِم. وَقَالَ الْقَارِي : أَيْ إِلَى اِجْتِمَاع عَصَبِيَّة فِي مُعَاوَنَة ظَالِم، وَفِي الْحَدِيث ” مَا بَال دَعْوَى الْجَاهِلِيَّة ” قَالَ صَاحِب النِّهَايَة: هُوَ قَوْلهمْ : يَا آلُ فُلَان، كَانُوا يَدْعُونَ بَعْضهمْ بَعْضًا عَنْ الْأَمْر الْحَادِث، (مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّة) : أَيْ عَلَى بَاطِل، (مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّة) : أَيْ عَلَى طَرِيقَتهمْ مِنْ حَمِيَّة الْجَاهِلِيَّة.
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : “مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ”. (( الراوي : جندب بن عبدالله | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم، الصفحة أو الرقم: 1850 | خلاصة حكم المحدث : صحيح ))
عن أبي بن كعب قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : “من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا”. (( الراوي : أبي بن كعب | المحدث : الألباني | المصدر : السلسلة الصحيحة، الصفحة أو الرقم: 1/538 | خلاصة حكم المحدث : إسناد رجاله ثقات فهو صحيح إن كان الحسن سمعه من عتي بن ضمرة فإنه كان مدلسا وقد عنعنه ))
قضاء الإسلام على العصبيات
جاء ديننا الحنيف سمحاً، نقياً، خالياً من الشوائب والنقائص، فهو يحترم كل البشر والأجناس، ومقياس التفاضل فيه يرجع إلى التقوى والدين، لا للعرق أو اللون.
كما دعا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- المسلمين إلى التآخي مع بعضهم، دون تمييز أو تجانب، وطلب منهم الولاء لبعضهم والنصرة، دون عصبية قبلية، أو حمية عشائرية، فهذه الأمور المشبوهة جاءت من الجاهلية، وعلينا نبذها، كما أمرنا الحبيب محمد.
لا تكون النصرة والولاء في الإسلام إلا للمحق، أو المظلوم مهما كانت منزلته، أما الظالم والباغي؛ فلا أحد ينصره بظلمه، حتى وإن كان سيد قومه. هكذا هو الإسلام، وضع الجميع تحت راية واحدة، راية التوحيد: لا إله إلا الله ، وكل الناس تحتها سواسية، ولا يسمح بالعصبية القبلية أو العشائرية، حتى لو كانت قريش سيدة المجتمع، فدعواها مردودة.
إن هذه العقيدة جمعت بلال الحبشي مع سادة قريش من المسلمين، دون تفرقة، وكما جمعت صهيب الرومي الأعجمي مع إخوانه من المسلمين العرب، بكل حب وترحاب، ودون تمييز وتحابب لأحد.
وقد اعتبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أن الذي يدعو للعصبية القبلية خارجاً من دائرة الإيمان والتوحيد، إلى الكفر والعياذ بالله، حيث بين أنه ليس منا ولا من كل المسلمين من دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية، أو مات على عصبية كما جاء ذلك في الأثر.
عودة العصبية الخبيثة
بعد أن قضى النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذه النعرة الخبيثة، انتهت واختفت، حتى مات -صلى الله عليه وسلم- وهو يردد: “كل دم في الجاهلية موضوع”، فالتزم المسلمون ذلك، إلا أنها عادت بعد فترة وجيزة ، لأن التربية الإيمانية القرآنية لم تلامس كثيراً من القلوب الواجفة، فقد ظهرت ضمن مظاهر متعددة تجلت وبرزت تلك الدعوى المنتنة، من خلال:
- حروب الردة.
- الإعجاب بالغرب، وثقافاتهم، والتفرقة بينهم وبين المسلمين.
- العصر الأموي وحياته المتعلقة بالترف والملوك والعبيد.
- أحقاد بعض الشعوب.
- العصبية القومية والوطنية في العصر الحديث.
كل هذه الأمور كانت مدعاةً لظهور العصبية القبلية، والحزبية الواضحة، إلى يومنا هذا، مع وجود ضعفٍ للدين في النفوس، وميل للترف، وحب العز والجاه، والكبر على من دونهم.
اقرأ أيضًا:
المصادر: