قال الله تعالى في سورة مريم: {فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا} وذلك في سياق الحديث عن قصّة مريم بنت عمران عندما تمثّل إليها ملك على هيئة إنسان وبشّرها بغلام يُدعى المسيح عيسى، ولهذا حملته إلى مكان بعيد عن قومها واعتزلتهم، ويتساءل الكثيرون عن معنى آية فحملته فانتبذت به مكانا قصيا وفوائدها.
معنى آية فحملته فانتبذت به مكانا قصيا
إنّ معنى آية فحملته فانتبذت به مكانا قصيا أي لما حملت السيدة مريم بعيسى عليه السلام، خافت من الفضيحة، فتباعدت عن الناس {مَكَانًا قَصِيًّا} فلما قرب ولادها، ألجأها المخاض إلى جذع نخلة، فلما آلمها وجع الولادة، ووجع الانفراد عن الطعام والشراب، ووجع قلبها من قالة الناس، وخافت عدم صبرها، تمنت أنها ماتت قبل هذا الحادث، فتكون نسيًا منسيًا لكيلا تذكر. وهذا التمني بناء على ذلك المزعج، وليس في هذه الأمنية خير لها ولا مصلحة، وإنما الخير والمصلحة بتقدير ما حصل.
لا بُدّ من التّنبّه إلى أنّ هذه الآية تضمّنت العديد من المسائل ومنها: مسألة نفخ الرّوح التي سبقت الحمل والانتباذ، حيث اختلف العلماء في النّافخ هل هو الله تعالى أم جبريل -عليه السّلام- والظّاهر هو الله تعالى والدّليل على ذلك قوله تعالى في سورة التّحريم: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا}.
ويرى آخرون أنّ النّافخ هو جبريل لقوله تعالى على لسان جبريل: {فقال إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا}، كما أنّهم اختلفوا في كيفيّة النّفخ، فمنهم من قال أنّ جبريل نفخ في جيبها فحملت، ومنهم من قال بأنّ النّفخ حصل من خلفها حتى وصل فرجها.
هناك رآي آخرون أنّ النّفخة دخلت من صدرها عندما نُفخ في جنبها، ممّا يعني أنّ الحمل تسبقه نفخة بأمر من الله ويكون ذلك بالالتقاء بين الرّجل والمرأة، ومن المعلوم أنّ مريم -عليها السّلام- كانت عذراء ولم يمسسها بشر، لذلك عندما بُشّرت بعيسى ونُفخت فيه الرّوح تركت قومها واعتزلت بنفسها.
وعلى ذلك فالمعنى أنّ مريم عندما شعرت بالحمل ابتعدت عن أهلها على الفور، حيث يُقال أنّها ذهبت إلى بيت لحم في أبعد وادي، خوفًا من أن يُعيّرها أحد من قومها أو يتهمونها بالفاحشة عندما تلد عيسى ولم يكن لها زوج.
ومن الجدير بالذّكر أنّ العلماء اختلفوا في مدّة الحمل، فمنهم من يرى كابن عبّاس أنّ مدّة حملها ساعة واحدة، وقيل: أنّ مدّة حملها كبقيّة النّساء، أيّ تسعة أشهر، وقيل أيضًا: ثمانية أشهر أو ستة أشهر.
وورد عن مقاتل بن سليمان: أنّ مريم حملت بعيسى وهي ابنة عشر سنوات حيث حاضت حيضتان قبل أن تحمل، حيث حملت فيه ساعة واحدة، وتمّ تصويره في ساعة وكانت مدّة الوضع في ساعة عند غروب الشّمس.
اقرأ أيضا: معنى آية ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين
فوائد آية فحملته فانتبذت به مكانا قصيا
- جاء في الآية الكريمة أنّ مريم -عليها السّلام- ابتعدت عن قومها عندما بُشّرت بعيسى -عليه السّلام- وحملت به بدون زواج وبدون أن يمسسها بشر، ممّا يدلّ على مريم العذراء وأخلاقها العالية، فزكريّا -عليه السّلام- قام بتربية مريم تربية حسنة ورعاها رعاية تامّة وأسكنها في محراب عبادته، ويُعبّر ذلك على أنّ التّربية الصّالحة مهمّة لتنشئة المجتمع وارتقائه.
- من الفوائد العظيمة المستفادة لهذه الآية التسليم لقضاء الله وقدره، والدليل على ذلك عندما جاء الوحي ليبشّر مريم؛ لأنّ أمر الحمل معجزة من قضاء الله وقدره ولا علاقة لها به، وهذا يربّي الإنسان على الصّبر وتسليم سائر الأمور لله تعالى ولا سيّما الأمور التي ليست بيد الإنسان، ومن أساليب الإستسلام لله بالذّكر الدّائم له وشكره على السّراء والضّراء.
- يدلّ حمل مريم -عليها السّلام- بدون أن يمسسها بشر على قدرة الله، فالله تعالى إذا أراد أمرًا فسيكون حتمًا، فالإنسان أينما حلّ وجهه يرى قدرة الله واقعة في كلّ مكان وزمان ومن بينها المعجزات الواردة في آيات القرآن ومن بينها معجزة حمل مريم.
- كان قدوم النّبي عيسى -عليه السّلام- بدون أب على حكمة الله المطلقة ليتّعظ به إسرائيل وقومهم، كما يدل على أنّ الله تعالى يعطي الإنسان نصيبه المكتوب في لوحه المحفوظ، وكلّ ذلك بعلمه وإرادته وقدرته، فمعجزة قدوم النّبي عيسى درسًا مهمًا يُستفاد منه بأنّ الشّيء المكتوب عند الله واقع لا محال.
- تُشير عزلة مريم -عليها السّلام- عندما شعرت بالحمل إلى ضرورة الرّجوع إلى الله وطلب العون منه، فمريم عندما اعتزلت عن أهلها ذهبت لتعبد الله وتدعو إليه ولا سيّما عندما أتاها الوحي على هيئة إنسان فحينها استجارت بالله؛ ولصدق استجارتها طمأنها الله وأنزل على قلبها السّكينة.
- ورود قصّة مريم ومعجزة حملها في القرآن يدلّ على جواز الاستشهاد بهذه القصص لتكون عبرة للأمّة؛ ليستفيدوا منها دينًا ودنيويًا، فمن المعلوم أنّ قصص القرآن جاء دستورًا لتنظيم حياة الأمّة، سواء كان الإنسان مع نفسه أو مع غيره، فالقرآن وما فيه من قصص يدلّ على عظمة الله تعالى وقدرته اللّامتناهية.
- بيّنت الآية الكريمة جواز العزلة ومشروعيتها، لما فيها من تغذية راجعة للعقل والنّفس، كما أنّ فيها محاسبة للنّفس ممّا يعني التّقرُّب من الله والابتعاد عمّا يغضبه، فالعزلة هي وسيلة رئيسة لاستعادة النّفس والالتزام بالطّاعات وتجنّب المحرّمات.
اقرأ أيضا: هل سورة مريم مكية ام مدنية