قدمت رواندا درسا بليغا لبلدان العالم الثالث، مفاده أن تحقيق المعجزات لا يزال ممكنا في أي بلد، بشرط التوفر على رؤية واضحة وقيادة حازمة وإدارة مواطنة، ويتساءل الكثيرون كيف تطورت رواندا وحققت تلك المعجزة الاقتصادية خلال عقدين من الزمن؟
كيف تطورت رواندا
قبل أن نُجيب على سؤال كيف تطورت رواندا ؟ يجب أولا الإشارة إلى عدة معلومات عن هذه الدولة وتاريخها، حيث تقع رواندا التي تعني باللغة المحلية “أرض الألف تل”، على مساحة لا تتعدى 25 ألف كيلو متر مربع، فهي من البلاد الصغيرة نسبيا في شرق وسط إفريقيا، ويُقدر سكانها بنحو عشرة ملايين نسمة.
وقد ارتبطت رواندا في الذاكرة العالمية بأبشع إبادة جماعية في التاريخ المعاصر، راح ضحيتها أكثر من مليون مواطن رواندي، بين سنتي 1990 و1994، وذلك نتيجة صراع طويل على السلطة بين قبيلتي الهوتو “80 في المائة” والتوتسي “20 في المائة”، تعود جذوره الأولى إلى حقبة الاحتلال الألماني وبعده البلجيكي للبلد، منذ أواخر القرن الثامن عشر.
تاريخيا، أنيطت الزراعة بالقبيلة الأغلبية، فيما امتهنت الأقلية الرعي. وقد وظف الاستعمار هذه الورقة بذكاء لمصلحته، حيث قرّب التوتسي واصفا إياهم بالعرق الأنقى، فيما استعبد الهوتو الذين عملوا كمزارعين لديه، واستمر التحريض والصراع بين مكونات المجتمع الرواندي؛ ما أشعل فتيل حرب دموية قتل فيها التوتسي، وكل من يتعاطف معهم من الهوتو.
اقرأ أيضا: تجربتي في رواندا
رواندا بعد الحرب الأهلية
دخلت روندا في فوضى عارمة تزاد سنة بعد أخرى، ما دفع الرئيس باستور بيزيمونجو إلى الاستقالة “1994-2000″، لتنتقل السلطة إلى زعيم الجبهة الوطنية الرواندية بول كاجامي الذي شارك في الاقتتال الداخلي، وينتمي إلى أقلية التوتسي التي أبيدت.
وضع الرجل البلاد على السكة، ونقلها من عصر الدماء إلى مسار المصالحة والوحدة والتنمية، بالعمل على توحيد الشعب المنقسم، وانتزاع البلاد من براثن الفقر.
لذا يمكن القول أن إجابة سؤال كيف تطورت رواندا كانت بفهم بول كاجامي ومن خلاله الروانديون أن مسار التفرقة والعنصرية والصراع لن يؤدي بهم سوى إلى مزيد من الدماء والحروب والتراجعات، فأقر دستورا يلغي الفوارق العرقية، وأسس هيئة للوحدة والمصالحة تدعى جاكاكا؛ ضمت 1200 محكمة محلية يكونها تسعة قضاة يختارهم سكان القرية. لا تقوم على فكرة العقاب، إنما الاعتراف بالخطأ والتكفير عنه بخدمة المجتمع، وسن قوانين صارمة، تعد الخطاب العنصري جريمة. وفرض برامج خاصة لإعادة تأهيل المتورطين في الإبادة. وأعادت الحكومة تقسيم المحافظات، حتى تعزز قيم المواطنة، وتلغي فكرة القبيلة.
استثمر الرجل في العنصر البشري خصوصا النساء أيما استثمار، فبعد أن كانت المرأة الرواندية على هامش المجتمع بلا حقوق سياسية. تحولت إلى المركز بعدما أضحت تمثل 70 في المائة من سكان البلاد؛ على اعتبار أن معظم ضحايا المجازر كانوا من الرجال، ومن بقي منهم لاذ بالفرار خارج البلاد. لذلك وجدت النساء أنفسهن معيلات لأسر وعائلات، ما جعل مهمة النهوض بالبلاد من ركام الإبادة حملا ثقيلا على عاتق الروانديات.
أولى باني رواندا أهمية قصوى للتعليم؛ بعدما أيقين أنه الحل لكل المعضلات التي تنخر البلد. واتخذ بشأنه قرارات شجاعة أدخلته في صراع مع قوى دولية “فرنسا”، بعدما عمد إلى تغيير لغة التدريس في المقررات التعليمية من الفرنسية إلى الإنجليزية. وفرض مدة دنيا إلزامية حددت في 12 سنة من التعليم المجاني. واستبدل نظام تقييم المدرسيين من الأقدمية نحو معيار نسبة النجاح. وأقر زيادة مستمرة في ميزانية التعليم، فبعد أن كانت 17 في المائة سنة 2013، أصبحت 22 في المائة سنة 2018، ووصلت إلى 25 في المائة في سنة 2020.
شهد البلد ثورة في زراعة وتصدير الشاي والبن اللذين يشكلان أساس الاقتصاد الرواندي، مع ظهور التعاونيات الزراعية التي كانت بمنزلة حل لمشكلة إيجاد فرص عمل للناجين من الإبادة. عززتها الحكومة بتوفير قروض ميسرة للمزارعين، لتظهر النتائج بعد سنوات فقط، حيث ارتفع إنتاج القهوة من 30 ألف طن إلى 15 مليون طن بعد تنفيذ هذه الخطة. وحقق البلد قفزة نوعية في القطاع السياحي؛ خاصة السياحة الطبيعية، ثاني مصدر للدخل بعد الزراعة، مع استقبال البلد مليون سائح سنويا، بعد أن كان بلدا طاردا لأبنائه فضلا عن السياح.
اقرأ أيضا: اقتصاد رواندا
حصاد المعجزة الرواندية
تزامنت نهضة رواندا الاقتصادية مع نهضة اجتماعية شملت جميع نواحي الحياة، فإلقاء نظرة على تطور الناتج الداخلي الخام في رواندا يكشف تطور هذا المؤشر عشرة أضعاف في غضون 13 سنة، فبعدما كان لا يتعدى 900 مليون دولار سنة 1994، أصبح يناهز 9.14 مليار دولار سنة 2017.
وتحولت رواندا إلى واحدة من أهم الاقتصادات الناهضة في العالم بمتوسط معدل نمو 7.5 في المائة من عام 2015 إلى عام 2017. وصنفت وفق تقرير لمنظمة دول “الكوميسا” لسنة 2016، كأول دولة في إفريقيا جذبا للمستثمرين ورجال الأعمال.
انعكست هذه النتائج على باقي المؤشرات، فقد تراجع معدل الفقر في رواندا من 60 في المائة إلى 39 في المائة، وانخفضت نسبة الأمية في أوساط الروانديين من 50 في المائة إلى 25 في المائة. في المقابل ارتفع متوسط حياة الفرد من 48 عاما إلى 64 عاما.
واحتلت رواندا المركز 44 عالميا، والأولى على مستوى إفريقيا في مؤشر محاربة الفساد. فالروانديون يشعرون طوال الوقت بأن لا أحد فوق القانون، ثقة بالمؤسسات ساعدت على جذب المستثمرين إلى جانب توافر الأيدي العاملة، وسهولة إنشاء شركة؛ إذ لا يتطلب الأمر سوى خمس ساعات فقط.
وحازت العاصمة الرواندية كيجالي لقب أنظف عاصمة إفريقية، بعد تبني سياسة “أومجاندا” التي تقتضي أن يخرج جميع سكان العاصمة يوم السبت الأخير من كل شهر لتنظيف شوارع مدينتهم، من رئيس البلاد حتى أصغر طفل.
كما أن رواندا تعد واحدة من أكثر عشر وجهات سياحية أمانا في العالم. وبلغ الاهتمام بالجانب المعلوماتي والتكنولوجي ورقمنة البلاد مستويات عليا، قياسا بالمعدلات المعروفة في القارة الإفريقية.
اقرأ أيضا: السياحة في رواندا