الشعر العربي والتعبير عن الذات

حاول النقاد العرب تقديم تصوُّر عن الشعر ومفهومه ولغته وأدائه، وفي حديث النقاد عن الشعر العربي والتعبير عن الذات ظهرت كتب تقدم وصايا للشعراء تُعينهم على إنتاج نصوصهم، وتُبَصِّرُهم بأدوات الشعر وطرق الإحسان فيه، كما عُنيت بعض الكتب بنقد الشعر وتمييز جيده من رديئه، بينما اهتمت كتب أخرى بجمعه وتدوينه وتصنيفه في مجموعات حسب أغراضه وموضوعاته.

الشعر العربي والتعبير عن الذات

الشعر العربي والتعبير عن الذات

عرف الشعر العربي منذ بداياته الأولى، تقلبات عدة، ساهمت فيها مجموعة من العوامل المختلفة، التاريخية والسياسية والثقافية وغيرها، كما طبعت العصور المتوالية والمتمايزة، كل قصيدة وكل شعر بطابع الشروط الخاصة بها، وبتقلبات التاريخ بينها.

ويبدو أن أبرز ظاهرة يمكن لقارئ الشعر أن يتتبعها بتمعن في الشعر العربي، هي ثنائية الذات والجماعة فيه، فالشعر العربي منذ بوادره الأولى إلى حدود العصر الأموي، كان محل كفتين اثنتين، فمرة تعلو كفة الذات الشاعرة، ومرة تدنو تاركة المجال لكفة جماعة الانتماء.

عند الحديث عن الشعر العربي والتعبير عن الذات فيمكن القول أن الشاعر العربي جال ودوابّه في صحرائه وحيدًا، يسير في بلد قفر، ووحشة من الإنس، احتاج إلى فكره ونظره وعقله، ووسم كل شيء بسمته ونسبه إلى جنسه، لا كتاب يدله إلا نجوم السماء أدلة على أطراف الأرض وأقطارها.

احتاج الشاعر العربي القديم إلى تلك الطبيعة الوعرة الموحشة، إلى التأمل في الكون والطبيعة وعبادة عناصرها عبادة وثنية، حتى أنه تأمل في ذاته وانغمس في ثنايا مشاعره وأحاسيسه.

جاء شعر الشاعر العربي الجاهلي معبرًّا عن ما يجول في فكره وما تمليه عليه خواطره، وما ينتابه من أمل وألم، وما تدفعه به ذاته من نرجسية وأنَفة عالية، فكان تارة يفتخر بها وتارة يتغزل ويشكو ما بها، يهجو الآخر ويمدحه وقد يرثيه. هكذا كان الشاعر الجاهلي يعبر عن وجوده النفسي، وعواطفه الخاصة.

لعل أبرز مثال عن تلك الذاتية ما اصطلح عليهم بالشعراء الصعاليك، الذين تميزوا بمبادئ خاصة، تدعوهم إلى التحرّر من التزامات القبيلة ونظامها، لينفرد الشاعر الصعلوك بنفسه، وبأفكاره الثورية، ناهجًا نمطًا شعريًا حماسيًا ذو أبعاد ذاتية محضة، يعلي شأن النفس والفكر معًا، ويبخس الخمول والاتكال على الجماعة.

يبدو أن نمطية القصيدة العربية في العصرين الأموي وصدر الإسلام، قد تغيرت بعض الشيء وخصوصا على مستوى المضامين والأغراض، فلم يعد المجال للشاعر العربي آنذاك لتوظيف الكثير من الأغراض الأخرى، كالغزل مثلا، لانشغاله بالدين والسياسة، اللذان هيمنا على الشعر بمواضيعهما.

جنح الشعر إلى تيار ديني ذاتي يعبر في الشاعر عن ذاته ومواقفها تجاه الدين والإسلام، وخصوصًا الشعراء الذين تحولوا من المرحلة الوثنية إلى التوحيد. كالشاعر الأعشى الذي عبر في إحدى قصائده عن رحلته إلى الإيمان بالدين الإسلامي، متأسفًا على ما أضاعه في الحياة السابقة في اللهو واتباع المعاصي، ليعلن عن توبته ومشاعره وآراءه تجاه الدين والإيمان، جاعلًا القصيدة تعبيرًا ذاتيًا عن تجربته الحياتية بين الكفر والتصديق الإيماني.

كذلك الأمر بالنسبة للعصر الأموي، فانصراف الشاعر إلى التعبير عن مواقفه السياسية تجاه النظام والحكم، يجعله يذكر أسباب اختياره الذاتي وموقفه الشخصي في قصائده، حتى وهو على فراش الموت.

من الأمثلة على ذلك ما حدث مع مالك بن الريب في قصيدته الرثائية، حيث جعله الموت يعيد شريط حياته متأملًا في اختياراته السياسية والفكرية، التي جعلته يدخل غازيًا إلى جيش بن عفان، بائعًا الضلالة بالهدى، منتقلًا من مرحلة التلصص والصعلكة إلى مرحلة التوبة والصلاح. كل هذا في قالب ذاتي وظّف فيه الشاعر عنصر الرثاء والتذكر، متأملًا في ذاته تأملًا عميقًا.

هكذا يمكننا أن نقول ببروز التعبير عن الذات والفكر والروح والنفس في الشعر العربي خلال العصر الجاهلي والإسلام وصولًا إلى حدود العصر الأموي، وحتى عند التعبير عن الجماعة ومآثرها وأمجادها، كان غالبًا ما يحدث انصهار بين عنصري الذات والجماعة إلى حد التمازج.

اقرأ أيضا: شعر عن العربية الفصحى

التعبير عن الذات في شعر المتنبي

المتنبي والتعبير عن الذات

لم يمتدح شاعرٌ عربيٌ نفسه كما أمتدح أبو الطيب المتنبي نفسه. وقد قيل إنه كان يشارك ممدوحيه في النصيب الأوفر من الإشارة إلى ذاته المتفوقة وقدرته على اجتراح المهم والعميق من القول. وكان من حقه، وقد توافر له هذا القدر من الإعجاز الشعري، أن يرتقي بهذه الذات إلى أعلى ما تستطيع الكلمات أن تصل إليه. وليس غريباً بعد ذلك أن يقول عن نفسه:

إن أكُن معجباً فعجبُ عجيبٍ

لا يرى فوق نفسه من مزيد

هذا هو المتنبي الذي كان يرى نفسه بلا ند ولا ضريب. لقد مدح الشعراء أنفسهم بأبيات محدودة أو بقصائد محددة، لكن المتنبي نشر نفسه على كل شعره، وأمدّه الخيال الخصب ليكون طرفاً مهماً في كل ما يكتبه من شعر عن الآخرين، أو عن الطبيعة ومفردات الأشياء. وما ديوانه، في أغلب قصائده، إلا عرف وترجيع على تطلعات النفس الكبيرة التي فاض إعجابها وتسامى إلى حد قوله:

تغرَّب لا مستعظماً غير نفسه

ولا قابلاً إلاَّ لخالقه حكما

يقولون لي مَا أنت في كل بلدةٍ

وما تبتغي؟ ما أبتغي جلَّ أن يُسمّى.

وفي حال إعادة النظر إلى القصيدة التي عاتب فيها سيف الدولة قبل مفارقته له والفرار من حلب إلى مصر، في هذه القصيدة ومطلعها (وا حرَّ قلباه) لا نراه يذكر سيف الدولة إلا في المطلع، أما بقية القصيدة فهي إشادة بالذات وإعجابٌ بالنفس، ربما استوحى ذلك من شعرٍ على درجة عالية من الصفاء والإعجاب الكبير بذات الشاعر. ومن ذلك:

الخيل والليل والبيداء تعرفني

والسيف والرمح والقرطاس والقلمُ

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي

وأسمعتْ كلماتي من به صممُ.

ويرى بعض النقاد المعاصرين أن أبا الطيب أنصف نفسه بالمدائح الخاصة، أو بتلك التي تأتي من خلال امتداحه للآخرين، فما أكثر الشعراء الذين يواجهون بالنكران والإهمال ولا يجدون إنصافاً، ولهذا فلم يكن هذا الشاعر مُبالغاً في قوله:

سيعلم الجُمع ممن ضَمَّ مجلسُنا

بأنني خير من تسعى به قدمُ.

اقرأ أيضا: أجمل أبيات الشعر الفصيح

المصادر:
مصدر 1
مصدر 2
مصدر 3

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *