معنى آية وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال
قال الله تعالى في سورة إبراهيم: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}، وتتناول الآية دأب الطَّواغيت في التَّكذيب والتَّشكيك في دعوة أنبياء الله ورسله ولا يكفون عن تحدي الله -سبحانه- حتى يُلحق بهم العذاب الأليم، ويجب على كل مسلم إدراك معنى آية وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال جيدًا، والإحاطة بتفسيرات العلماء للآية، وما ترمي إليه من مقاصد جليلة.
معنى آية وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال
إنّ معنى آية وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال أي وقد دبَّر المشركون الشرَّ للرسول صلى الله عليه وسلم بقتله، وعند الله مكرهم فهو محيط به، وقد عاد مكرهم عليهم، وما كان مكرهم لتزول منه الجبال ولا غيرها لضعفه ووَهَنه، ولم يضرُّوا الله شيئًا، وإنما ضرُّوا أنفسهم.
وقد أفاد الحسن في تفسير وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال أي إنَّ كل المكر الذي يمكرون فيه هو أضعف وأقل وأوهن من أن تختفي الجبال منه وتزول.
وبذلك يكون المعنى أنَّ الله -سبحانه- عليمٌ بكلِّ شيءٍ وعليمٌ بشرك المشركين وظلمهم لأنفسهم وعصيانهم له تبارك وتعالى، وهو سيتولى محاسبتهم وعقابهم على ما اقترفت أيديهم من الظلم وما كان كفرهم وشركهم بالله لتُمحى منه الجبال أو تزول بل هم لم يضروا إلا أنفسهم وسيتولى الله أمرهم يوم القيامة، فالمكر هو الغدر والغدر هو الكفر بالله -تعالى- والإشراك به.
واختلف قُرَّاء القرآن في قراءة تلك الآية فمنهم من قرأها بكسر اللام الأولى وفتح الثانية {لِتَزُولَ}، وذلك ما ذهب إليه أهل المدينة وعموم قُرَّاء الحجاز وأهل العراق، ما عدا الكسائي وبذلك يكون معناها ما كان مكرهم لتزول منه الجبال.
وأمَّا الكسائي فقد قال بأنَّها تُقرأ بفتح اللام الأولى وضم اللام الثَّانية، وبذلك يكون تفسيرها أنَّه اشتدَّ مكرهم حتى اندثرت منه الجبال وزالت أو أنَّها كادت تزول منه، وأمَّا الأصح من القولين فهو القول الأوَّل الذي يقضي بكسر اللام الأولى وفتح اللام الثانية وهي بمعنى وما كان مكرهم لتتلاشى وتزول منه الجبال.
اقرأ أيضا: معنى آية الذين جعلوا القرآن عضين
سبب نزول وإن كان مكرهم لِتَزُولَ منه الجبال
وورد في تفسير الآية عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنَّ هذه الآية نزلت في النُّمرود، عندما عمد إلى أربعة فراخ من النسور فأطعمهم حتَّى شبوا فكانوا عظام البنية والقوة، فاتخذ تابوتًا وجعل له بابًا من أعلاه وبابًا من أسفله فجلس فيه مع رجلٍ آخر، وربط الأربعة نسور بالتَّابوت وجعل على أطراف التابوت أربعة أعواد من الخشب وفي رأس كل عامودٍ قطعةٌ من اللحم فجعلت النسور تطير طمعًا في قطعة اللحم.
وكان مراد النمرود هو أن يصل إلى السَّماء فينظر ما فيها، فلمَّا طارت النسور يومًا كاملًا قال النمرود افتح باب تابوت ننظر إلى السماء كيف هي، فقال له: إنَّ السَّماء كما هي، فقال له: إذًا انظر إلى الأرض فقال له: إنَّ الأرض مثل اللجة والجبال تشبه الدخان.
فترك النسور تطير يومًا آخر فقال له: انظر هل اقتربنا من السماء، فلمَّا نظر قال له: إنَّ السَّماء كهيئتها، فقال له: إذًا انظر إلى الأرض فرأى الأرض سوداء قاتمة مظلمة، فنودي به أيَّها الطَّاغوت أين تريد؟ فقيل إنَّه كان يحمل سهمًا فضربه فإذا به يعود إليه وقد لُطِّخ بالدماء، فقيل إنه أصاب سمكة رمت بنفسها من البحر وقيل إنه أصاب طائر.
فقال: ها أنا كفيت إله السماء، وأمر الرجل أن يصوِّب الخشبات نحو الأرض فهبطت النسور، فلمَّا سمعت الجبال صوت النسور والتابوت فظنَّت أن القيامة قد قامت أو أنَّ حادثًا من السماء قد حدث، فكادت أن تزول من مكانها، وذلك تفسير قوله تعالى {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.
اقرأ أيضا: معنى آية بل الإنسان على نفسه بصيرة
فوائد آية وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال
بعد الوقوف مع قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}، من ناحية التفسير والتأويل لا بدَّ من محاولة استنباط بعض الثمرات كما بينها الأئمة المجتهدون، وفيما يأتي سيكون ذلك:
- إنَّ ذكر مواضع مكر العاصين بالصالحين هو لتثبيت قلب المؤمن وتقوية عزيمته، وتبيين أنَّ أمر الله نافذٌ ولو حال أهل الأرض دون ذلك، فإخوة يوسف مكروا له لكنَّ العاقبة الحسنى كانت ليوسف، ومشركي قريش مكروا برسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومكر قوم إبراهيم بنبيهم، لكنَّ الله متمّ نوره ولو كره الكافرون، وفي نهاية الأمر لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
- إنَّ دأب أعداء الله هو المكر بأوليائه ومحاولة إفساد الأرض ومن عليها، وهم يمكرون لأجل ذلك ويُحاولون الوصول إلى أهدافهم بأي طريقة كانت، ولو نجحوا في مكرهم لزالت الجبال من أماكنها؛ لشدة ذلك المكر، لكنَّ الله موهن كيد الكافرين ومحبطٌ لمخططاتهم وهو -سبحانه- تكفل بتنجية من اعتصم به ولو كاد له أهل الأرض جميعًا.
- إنّ الأحداث التي يشهدها المسلمون هي ليست إلا من مكر وكيد أعداء الدِّين، وهي امتحانٌ للمسلم في الدَّار الدُّنيا ليميز الله الخبيث من الطيب، وينجي من آمن به واعتصم بحبله، ويمحق الكافرين فلا يكون مكرهم إلّا عليهم، وفي ذلك بيانٌ لأهم الثمرات المستوحاة من قوله تعالى: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ}.