قصص المشتاقون إلى الجنة

اشتاقت نفوس الصالحين إلى الجنة حتى قدموا في سبيل الوصول إليها كلَّ ما يملكون هجروا لذيذ النوم والرقاد ، وبكوا في لأسحار ، وصاموا النهار ، وجاهدوا الكفار ، فلله كم من صالح وصالحة اشتاقت إليهم الجنة كما اشتاقوا إليها من حسن أعمالهم ، وطيب أخبارهم ، ولذة مناجاتهم ، ونستعرض في هذا المقال قصص المشتاقون إلى الجنة.

قصص المشتاقون إلى الجنة

قصة أم حارثة بن سراقة

الاشتياق إلى الجنة

دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس للخروج إلى بدر، فلما أقبلت جموع المسلمين كانت النساء ، وكان من بين هؤلاء الحاضرين عجوز ثكلى ، كبدها حرى تنتظر مقدم ولدها. فلما دخل المسلمون المدينة بدأ الأطفال يتسابقون إلى آبائهم ، والنساء تسرع إلى أزواجها ، ​والعجائز يسرعن إلى أولادهن ، وأقبلت الجموع تتتابع.

جاء الأول، ثم الثاني، والثالث والعاشر والمائة، ولم يحضر حارثة بن سراقة، ​ وأم حارثة تنظر وتنتظر تحت حرّ الشمس ، تترقب إقبال فلذة كبدها ، وثمرةِ فؤادها.

كانت تعد في غيابه الأيام بل الساعات ، وتتلمس عنه الأخبار ، ترقبت العجوز وترقبت فلم تر ولدها ، فتحركت الأم الثكلى تجر خطاها إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، ودموعها ـ فنظر الرحيم الشفيق إليها فإذا هي عجوز قد هدها الهرم والكبر ، وأضناها التعب وقلّ الصبر ، ​ وقد طال شوقها إلى ولدها ، تتمنى لو أنه بين يديها تضمه ضمة ، وتشمه شمة ولو كلفها ذلك ، اضطربت القدمان ، وانعقد اللسان ، وجرت بالدموع العينان، كبر سنها ، واحدودب ظهرها ، ورق عظمها ، ويبس جلدها ، واحتبس صوتها في حلقها ، وقد رفعت بصرها تنتظر ما يجيبها الذي لا ينطق عن الهوى.

فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذلها وانكسارها ، وفجيعتَها بولدها ، التفت إليها وقال : ​ ويحك يا أم حارثة أهبلت ؟! أوجنةٌ واحدة ؟! إنها جنان ، وإن حارثة قد أصاب الفردوس لأعلى .. ​

فلما سمعت العجوز الحرى هذا الجواب : جف دمعها ، وعاد صوابها ، وقالت : في الجنة ؟ قال : نعم ​

فقالت : الله أكبر، ثم رجعت الأم الجريحة إلى بيتها تنتظر أن ينزل بها هادم اللذات، ليجمعها مع ولدها في الجنة، ​لم تطلب غنيمة ولا مالاً ، ولم تلتمس شهرة ولا حالاً ، وإنما رضيت بالجنة.

قصة أبو قدامة الشامي

أبو قدامة الشامي

كان أبو قدامة الشامي رجلاً قد حبب إليه الجهاد والغزو في سبيل الله ، فلا يسمع بغزوة في سبيل الله ولا بقتال بين المسلمين والكفار إلا وسارع وقاتل مع المسلمين فيه ، فجلس مرة في الحرم المدني فسأله سائل فقال : يا أبا قدامة أنت رجل قد حبب إليك الجهاد والغزو في سبيل الله فحدثنا بأعجب ما رأيت من أمر الجهاد والغزو.

فقال أبو قدامة : إني محدثكم عن ذلك : خرجت مرة مع أصحاب لي لقتال الصليبيين على بعض الثغور فمررت في طريقي بمدينة الرقة واشتريت منها جملاً أحمل عليه سلاحي ، ووعظت الناس في مساجدها وحثثتهم على الجهاد والإنفاق في سبيل الله ، فلما جن علي الليل اكتريت منزلاً أبيت فيه ، فلما ذهب بعض الليل فإذا بالباب يطرق عليّ ، فلنا فتحت الباب فإذا بامرأة متحصنة قد تلفعت بجلبابها ، فقلت : ما تريدين ؟
قالت : أنت أبو قدامة ؟
قلت : نعم.
قالت : أنت الذي جمعت المال اليوم للثغور ؟
قلت : نعم ، فدفعت إلي رقعة وخرقة مشدودة وانصرفت باكية ، فنظرت إلى الرقعة فإذا فيها : إنك دعوتنا إلى الجهاد ولا قدرة لي على ذلك فقطعت أحسن ما فيَّ وهما ضفيرتاي وأنفذتهما إليك لتجعلهما قيد فرسك لعل الله يرى شعري قيد فرسك في سبيله فيغفر لي. قال أبو قدامة : فعجبت والله من حرصها وبذلها ، وشدة شوقها إلى المغفرة والجنة .
فلما أصبحنا خرجت أنا وأصحابي من الرقة ، فلما بلغنا حصن مسلمة بن عبد الملك فإذا بفارس يصيح وراءنا وينادي يقول : يا أبا قدامة يا أبا قدامة ، قف عليَّ يرحمك الله.
قال أبو قدامة : فقلت لأصحابي : تقدموا عني وأنا أنظر خبر هذا الفارس ، فلما رجعت إليه ، بدأني بالكلام وقال : الحمد لله الذي لم يحرمني صحبتك ولم يردني خائباً.
فقلت له ما تريد : قال أريد الخروج معكم للقتال .
فقلت له : أسفر عن وجهك أنظر إليك فإن كنت كبيراً يلزمك القتال قبلتك ، وإن كنت صغيراً لا يلزمك الجهاد رددتك .
فقال : فكشف اللثام عن وجهه فإذا بوجه مثل القمر وإذا هو غلام عمره سبع عشرة سنة
فقلت له : يا بني ؟ عندك والد ؟ قال : أبي قد قتله الصليبيون وأنا خارج أقاتل الذين قتلوا أبي .
قلت : أعندك والدة ؟
قال : نعم ، قلت : ارجع إلى أمك فأحسن صحبتها فإن الجنة تحت قدمها
فقال : أما تعرف أمي ؟ قلت : لا.
قال : أمي هي صاحبة الوديعة ، قلت : أي وديعة ؟
قال : هي صاحبة الشكال ، قلت : أي شكال ؟
قال : سبحان الله ما أسرع ما نسيت !! أما تذكر المرأة التي أتتك البارحة وأعطتك الكيس والشكال ؟؟
قلت : بلى ، قال : هي أمي ، أمرتني أن أخرج إلى الجهاد ، وأقسمت عليَّ أن لا أرجع.
وإنها قالت لي : يا بني إذا لقيت الكفار فلا تولهم الدبر ، وهَب نفسك لله واطلب مجاورة الله ، ومساكنة أبيك وأخوالك في الجنة ، فإذا رزقك الله الشهادة فاشفع فيَّ ثم ضمتني إلى صدرها ، ورفعت رأسها إلى السماء ، وقالت : إلهي وسيدي ومولاي ، هذا ولدي ، وريحانةُ قلبي ، وثمرةُ فؤادي ، سلمته إليك فقربه من أبيه.
قال أبو قدامة : فلما سمعت ذلك منه أخذته معنا ، فوالله ما رأينا أنشط منه ، إن ركبنا فهو أسرعنا ، وإن نزلنا فهو أنشطنا ، وهو في كل أحواله لا يفتر لسانه عن ذكر الله تعالى أبداً.

فجالت الأبطال ، ورميت النبال ، وجردت السيوف ، وتكسرت الجماجم ، وتطايرت الأيدي والأرجل، واشتد علينا القتال حتى اشتغل كلٌ بنفسه ، وقال كل خليل كنت آمله. فالتفت أبو قدامة إلى مصدر الصوت فإذا الجسد جسد الغلام وإذا الرماح قد تسابقت إليه ، والخيلُ قد وطئت عليه، وإذا هو يتيم ملقى في الصحراء قال أبو قدامة : فأقبلت إليه ، وانطرحت بين يديه ، وصرخت : هاأنا أبو قدامة، فقال : الحمد لله الذي أحياني إلى أن أوصي إليك ، فاسمع وصيتي، قال أبو قدامة : فبكيت والله على محاسنه وجماله ، ورحمةً بأمه.

فقال : يا عم ، أقسمت عليك إذا أنا مت أن ترجع إلى الرقة ، ثم تبشر أمي بأن الله قد تقبل هديتها إليه ، وأن ولدها قد قتل في سبيل الله مقبلاً غير مدبر ، وأن الله إن كتبني في الشهداء فإني سأوصل سلامها إلى أبي وأخوالي في الجنة.

المصادر:

مصدر 1

مصدر 2

مصدر 3

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *